" صفحة رقم ٩٣ "
استعارة تمثيلية مكنية، شُبّهت حالة المؤمنين الفائزين في عملهم، مع حالة المشركين، بحالة الغالب على امتلاك دار عَدُوّه، وطُوي المركَّب الدالّ على الهيئة المشبَّه بها، ورُمز إليه بذكر ما هو من رَوادفه، وهو ) عاقبة الدار (، فإنّ التّمثيليّة تكون مصرّحة، وتكون مكنية، وإن لم يُقسِّمُوهَا إليهما، لكنّه تقسيم لا محيص منه. ويجوز أن تكون ) الدار ( مستعارة للحالة الّتي استقرّ فيها أحد، تشبيها للحالة بالمكان في الاحتواء، فتكون إضافة عاقبَة إلى الدار إضافة بيانية، أي العاقبة الحسنى الّتي هي حالُه، فيكون الكلام استعارة مصرّحة.
ومن محاسنها هنا : أنّها بنت على استعارة المكانة للحالة في قوله :( اعملوا على مكانتكم ( فصار المعنى : اعملوا في داركم ما أنتم عاملون فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار. وفي الكلام مع ذلك إيماء إلى أنّ عاقبة تلك الدار، أي بلد مكة، أن تكون للمسلمين، كقوله تعالى :( أنّ الأرض يرثها عبادي الصّالحون ( ( الأنبياء : ١٠٥ ) وقد فسّر قوله :( من تكون له عاقبة الدار ( بغير هذا المعنى.
وقرأ الجمهور :( مَن تكون ( بتاء فوقيّة وقرأه حمزة، والكسائي، بتحتيّة، لأنّ تأنيث عاقبة غير حقيقي، فلمّا وقع فاعلاً ظاهراً فيجوز فيه أن يقرن بعلامة التّأنيث وبدونها.
وجملة :( إنه لا يفلح الظالمون ( تذييل للوعيد يتنزّل منزلة التّعليل، أي لأنّه لا يفلح الظّالمون، ستكون عقبى الدار للمسلمين، لا لكم، لأنّكم ظالمون.
والتّعريف في ) الظالمون ( للاستغراق، فيشمل هؤلاء الظّالمين ابتداء، والضّمير المجعول اسم ( إنّ ) ضميرُ الشأن تنبيها على الاهتمام بهذا الخبر وأنّه أمر عظيم.
" صفحة رقم ٩٣ "
وأخرج مسلم عن عروة بن الزبير، قال : كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلاّ الحُمْس، والحُمْس قريشٌ وما ولدتْ فكان غيرهم يطوفون عراة إلاّ أن يعطيهم الحُمْس ثياباً فيعطِي الرّجالُ الرّجالَ والنّساءُ النّساءَ، وعنه : أنّهم كانوا إذا وصلوا إلى منى طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عُراة. وروي أنّ الحُمْس كانوا يقولون نحن أهل الحرم فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلاّ في ثيابنا ولا يأكل إذا دَخل أرضنا إلاّ من طعامنا. فمن لم يكن له من العرب صديق بمكّة يعيره ثوباً ولا يجد من يستأجر به كان بين أحد أمرين إمّا أن يطوف بالبيت عُرياناً، وإمّا أن يطوف في ثيابه فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسّه أحد وكان ذلك الثّوب يسمّى : اللَّقَى بفتح اللام قال شاعرهم :
كفى حزناً كَري عليه كأنّه
لقى بين أيدي الطائفين حَرامُ
وفي ( الكشاف )، عن طاووس : كان أحدهم يطوف عرياناً ويدع ثيابه وراء المسجد وإن طاف وهي عليه ضُرِب وانتُزِعَت منه لأنّهم قالوا : لا نعبد الله في ثياببٍ أذنَبْنا فيها، وقد أبطله النبي ( ﷺ ) إذ أمر أبا بكر رضي الله عنه، عام حجّته سنة تسع، أن ينادي في الموسم :( أنْ لا يحج بعد العام مُشرك ولا يطوفَ بالبيت عُريان ).
وعن السدي وابن عبّاس كان أهل الجاهليّة التزموا تحريمَ اللّم والودك في أيام الموسم، ولا يأكلون من الطّعام إلاّ قُوتاً، ولا يأكلون دَسماً، ونسب في ( الكشاف ) ذلك إلى بني عامر، وكان الحُمْس يقولون : لا ينبغي لأحد إذا دخل أرضَنا أن يأكل إلاّ من طعامنا، وفي ( تفسير الطبري )