قلت : وهذا حسن فإنه لما ذكر الليل ذكر النهار ؛ إذ هو قسيمه ؛ وقد قال الله تعالى :﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ﴾ على ما تقدم.
الثانية- قوله تعالى :﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾ التبتل : الانقطاع إلى عبادة الله عز وجل ؛ أي انقطع بعبادتك إليه، ولا تشرك به غيره. يقال : بتلت الشيء أي قطعته، ومنه قولهم : طلقها بتة بتلة، وهذه صدقة بتة بتلة ؛ أي بائنة منقطعة عن صاحبها، ؛ أي قطع ملكه عنها بالكلية ؛ ومنه مريم البتول لانقطاعها إلى الله تعالى، ويقال للراهب متبتل ؛ لانقطاعه عن الناس، وانفراده بالعبادة، قال :

تضيء الظلام بالعشاء كأنها منارة ممسى راهب متبتل
وفي الحديث النهي عن التبتل، وهو الانقطاع عن الناس والجماعات. وقيل : إن أصله عند العرب التفرد ؛ قال ابن عرفة. والأول أقوى لما ذكرنا. ويقال : كيف قال : تبتيلا، ولم يقل تبتلا ؟ قيل له : لأن معنى تبتل بتل نفسه، فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل.
الثالثة- قد مضى في (المائدة) في تفسير قوله تعالى :﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ كراهة لمن تبتل وانقطع وسلك سبيل الرهبانية بما فيه كفاية. قال ابن العربي : وأما اليوم وقد مرجت عهود الناس، وخفت أماناتهم، واستولى الحرام على الحطام، فالعزلة خير من الخلطة، والعزبة أفضل من التأهل، ولكن معنى الآية : انقطع عن الأوثان والأصنام وعن عبادة غير الله، وكذلك قال مجاهد : معناه : أخلص له العبادة، ولم يرد التبتل، فصار التبتل مأمورا به في القرآن، منهيا عنه في السنة، ومتعلق الأمر غير متعلق النهي ؛ فلا يتناقضان، وإنما بعث ليبين للناس ما نزل إليهم ؛ فالتبتل المأمور به : الانقطاع إلى الله بإخلاص العبادة ؛ كما قال تعالى :{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا


الصفحة التالية
Icon