قوله تعالى :﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ﴾ نهى عن الغلو. والغلو التجاوز في الحد ؛ ومنه غلا السعر يغلو غلاء ؛ وغلا الرجل في الأمر غلوا، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها ؛ ويعني بذلك فيما ذكره المفسرون غلو اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم، وغلو النصارى فيه حتى جعلوه ربا ؛ فالإفراط والتقصير كله سيئة وكفر ؛ ولذلك قال مطرف بن عبدالله : الحسنة بين سيئتين ؛ وقال الشاعر :

وأوف ولا تستوف حقك كله وصافح فلم يستوف قط كريم
ولا تغل في شيء من الأمر وأقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقال آخر :
عليك بأوساط الأمور فإنها نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا
وفي صحيح البخاري عنه عليه السلام :"لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى وقولوا عبدالله ورسوله".
قوله تعالى :﴿ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ ﴾ أي لا تقولوا إن له شريكا أو ابنا. ثم بين تعالى حال عيسى عليه السلام وصفته فقال :﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ ﴾
وفيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ ﴾ المسيح رفع بالابتداء ؛ و ﴿ عِيسَى ﴾ بدل منه وكذا ﴿ ابْنَ مَرْيَمَ ﴾ ويجوز أن يكون خبر الابتداء ويكون المعنى : إنما المسيح ابن مريم. ودل بقوله :﴿ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ على أن من كان منسوبا بوالدته كيف يكون إلها، وحق الإله أن يكون قديما لا محدثا. ويكون ﴿ رَسُولُ اللَّهِ ﴾ خبرا بعد خبر.
الثانية : لم يذكر الله عز وجل امرأة وسماها باسمها في كتابه إلا مريم ابنة عمران ؛ فإنه ذكر اسمها في نحو من ثلاثين موضعا لحكمة ذكرها بعض الأشياخ ؛ فإن الملوك والأشراف


الصفحة التالية
Icon