المعرفة وثقة القلب. والوجل : الفزع من عذاب الله ؛ فلا تناقض. وقد جمع الله بين المعنيين في قوله ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر : ٢٣]. أي تسكن نفوسهم من حيث اليقين إلى الله وإن كانوا يخافون الله. فهذه حالة العارفين بالله، الخائفين من سطوته وعقوبته ؛ لا كما يفعله جهال العوام والمبتدعة الطغام من الزعيق والزئير ومن النهاق الذي يشبه نهاق الحمير. فيقال لمن تعاطى ذلك وزعم أن ذلك وجد وخشوع : لم تبلغ أن تساوي حال الرسول ولا حال أصحابه في المعرفة بالله، والخوف منه، والتعظيم لجلاله ؛ ومع ذلك فكانت حالهم عند المواعظ الفهم عن الله والبكاء خوفا من الله. ولذلك وصف الله أحوال أهل المعرفة عند سماع ذكره وتلاوة كتابه فقال :﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [المائدة : ٨٣]. فهذا وصف حالهم وحكاية مقالهم. ومن لم يكن كذلك فليس على هديهم ولا على طريقتهم ؛ فمن كان مستنا فليستن، ومن تعاطى أحوال المجانين والجنون فهو من أخسهم حالا ؛ والجنون فنون. روى مسلم عن أنس بن مالك أن الناس سألوا النبي ﷺ حتى أحفوه في المسألة، فخرج ذات يوم فصعد المنبر فقال :"سلوني لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم ما دمت في مقامي هذا". فلما سمع ذلك القوم أرموا ورهبوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر. قال أنس : فجعلت ألتفت يمينا وشمالا فإذا كل إنسان لاف رأسه في ثوبه يبكي. وذكر الحديث. وروى الترمذي وصححه عن العرباض بن سارية قال : وعظنا رسول الله ﷺ موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. الحديث. ولم يقل : زعقنا ولا رقصنا ولا زفنا ولا قمنا.


الصفحة التالية
Icon