" صفحة رقم ٣٠٨ "
باستعبادهم لهم. قرىء :( ألا يتقون ) بكسر النون، بمعنى : ألا يتقونني : فحذفت النون لاجتماع النونين، والياء للاكتفاء بالكسرة. فإن قلت : بما تعلق قوله : ألا يتقون ؟ قلت : هو كلام مستأنف أتبعه عز وجل إرساله إليهم للإنذار، والتسجيل عليهم بالظلم. تعجيباً لموسى من حالهم التي شنعت في الظلم والعسف، ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم وحذرهم من أيام الله. ويحتمل أن يكون ) لاَ يَتَّقُونَ ( حالاً من الضمير في الظالمين، أي : يظلمون غير متقين الله وعقابه، فأدخلت همزة الإنكار على الحال. وأمّا من قرأ : ألا تتقون. على الخطاب. فعلى طريقة الالتفات إليهم، وجبههم، وضرب وجوههم بالإنكار، والغضب عليهم، كما ترى من يشكو من ركب جناية إلى بعض أخصائه والجاني حاضر، فإذا اندفع في الشكاية وحرّ مزاجه وحمى غضبه قطع مباثة صاحبه وأقبل على الجاني يوبخه ويعنف به ويقول له : ألا تتق الله، ألا تستح من الناس. فإن قلت : فما فائدة هذا الإلتفات، والخطاب مع موسى عليه الصلاة والسلام في وقت المناجاة، والملتفت إليهم غيب لا يشعرون ؟ قلت : إجراء ذلك في تكليم المرسل إليهم في معنى إجرائه بحضرتهم وإلقائه إلى مسامعهم، لأنه مبلغه ومنهيه وناشره بين الناس، وله فيه لطف وحث على زيادة التقوى، وكم من آية أنزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين، تدبراً لها واعتباراً بموردها. وفي ) أَلا يَتَّقُونَ ( بالياء وكسر النون وجه آخر، وهو أن يكون المعنى : ألا يا ناس اتقون، كقوله :) إِلا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ (.
) قَالَ رَبِّ إِنِّى أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (.
الشعراء :( ١٢ ) قال رب إني.....
ويضيق وينطلق، بالرفع ؛ لأنهما معطوفان على خبر إنّ، وبالنصب لعطفهما على صلة أن. والفرق بينهما في المعنى : أنّ الرفع يفيد أنّ فيه ثلاث علل : خوف التكذيب، وضيق الصدر، وامتناع انطلاق اللسان، والنصب على أنّ خوفه متعلق بهذه الثلاثة. فإن قلت : في النصب تعليق الخوف بالأمور الثلاثة، وفي جملتها نفي انطلاق اللسان. وحقيقة الخوف إنما هي غم يلحق الإنسان لأمر سيقع، وذلك كان واقعاً، فكيف جاز تعليق الخوف به ؟ قلت : قد علق الخوف بتكذيبهم وبما يحصل له بسببه من ضيق الصدر، والحبسة في اللسان زائدة على ما كان به، على أنّ تلك الحبسة التي كانت به قد زالت بدعوته. وقيل : بقيت منها بقية يسيرة. فإن قلت : أعتذارك هذا يردّه الرفع، لأنّ