" صفحة رقم ٣٤٢ "
به الدلالة على تمكنه مكذباً في قلوبهم أشدّ التمكن، وأثبته فجعله بمنزلة أمر قد جبلوا عليه وفطروا. ألا ترى إلى قولهم : هو مجبول على الشح، يريدون : تمكن الشحّ فيه ؛ لأنّ الأمور الخلقية أثبت من العارضة، والدليل عليه أنه أسند ترك الإيمان به إليهم على عقبه، وهو قوله :) لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ (. فإن قلت : ما موقع ) لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ( من قوله :) سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ( ؟ قلت : موقعه منه موقع الموضع والملخص ؛ لأنه مسوق لثباته مكذباً مجحوداً في قلوبهم، فأتبع ما يقرّر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به وجحوده حتى يعاينوا الوعيد. ويجوز أن يكون حالاً، أي : سلكناه فيها غير مؤمن به. وقرأ الحسن :( فتأتيهم )، بالتاء يعني : الساعة. وبغتة، بالتحريك. وفي حرف أبيّ :( ويروه بغتة ). فإن قلت : ما معنى التعقيب في قوله :) فيأتيهم بغتة.... ( ؟ قلت : ليس المعنى ترادف رؤية العذاب ومفاجأته وسؤال النظرة فيه في الوجود، وإنما المعنى ترتبها في الشدّة، كأنه قيل : لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم للعذاب فما هو أشدّ منها وهو لحوقه بهم مفاجأة، فما هو أشدّ منه وهو سؤالهم النظرة. ومثال ذلك أن تقول لمن تعظه : إن أسأت مقتك الصالحون فمقتك الله، فإنك لا تقصد بهذا الترتيب أنّ مقت الله يوجد عقيب مقت الصالحين، وإنما قصدك إلى ترتيب شدّة الأمر على المسيء، وأنه يحصل له بسبب الإساءة مقت الصالحين، فما هو أشدّ من مقتهم : وهو مقت الله، وترى ثمّ يقع هذا الأسلوب فيحل موقعه ) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ( تبكيت لهم بإنكار وتهكم، ومعناه : كيف يستعجل العذاب من هو معرض لعذاب يسأل فيه من جنس ما هو فيه اليوم من النظرة والإمهال طرفة عين فلا يجاب إليها. ويحتمل أن يكون هذا حكاية توبيخ يوبخون به عند استنظارهم يومئذ، و ) يَسْتَعْجِلُونَ ( على هذا الوجه حكاية حال ماضية. ووجه آخر متصل بما بعده، وذلك أنّ استعجالهم بالعذاب إنما كان لاعتقادهم أنه غير كائن ولا لاحق بهم، وأنهم ممتعون بأعمار طوال في سلامة وأمن، فقال تعالى : أفبعذابنا يستعجلون أشرا وبطرا واستهزاء واتكالا على الأمل الطويل، ثم قال : هب أنّ الأمر كما يعتقدون من تمتيعهم وتعميرهم، فإذا لحقهم الوعيد بعد ذلك ما ينفعهم حينئذٍ ما مضى من طول أعمارهم وطيب معايشهم. وعن ميمون بن مهران : أنه لقي الحسن في الطواف وكان يتمنى لقاءه فقال له : عظني، فلم يزده على تلاوة هذه الآية. فقال ميمون : لقد وعظت فأبلغت. وقرىء :( يمتعون )، بالتخفيف.


الصفحة التالية
Icon