" صفحة رقم ٥٧٤ "
أي لا يمسك الرقة والعطف إمساك المالك الضنين ما في يده، بل يبذل ذلك ويسمح به. ومنه قولهم أبغض حق أخيك ؟ لأنه إذا أحبه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤده، وإذا أبغضه أخرجه وأدّاه، فمعنى، فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان، فأبين إلاّ أن يؤدينها وأبى الإنسان إلاّ أن يكون محتملاً لها لا يؤديها. ثم وصفه بالظلم لكونه تاركاً لأداء الأمانة، وبالجهل لإخطائه ما يسعده مع تمكنه منه وهو أداؤها. والثاني : أن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه وثقل محمله : أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشدّه : أن يتحمله ويستقل به، فأبى حمله والاستقلال به وأشفق منه، وحمله الإنسان على ضعفه ورخاوة قوّته ) إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ( حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها، وضمنها ثم خاس بضمانة فيها، ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب. وما جاء القرآن إلاّ على طرقهم وأساليبهم من ذلك قولهم : لو قيل للشحم : أين تذهب ؟ لقال : أسوي العوج، وكم وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات. وتصوّر مقاولة الشحم محال، ولكن الغرض أنّ السمن في الحيوان مما يحسن قبيحه، كما أن العجف مما يقبح حسنه، فصوّر أثر السمن فيه تصويراً هو أوقع في نفس السامع، وهي به آنس وله أقبل، وعلى حقيقته أوقف، وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها. فإن قلت : قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأي واحد : أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى ؛ لأنه مثلت حاله في تميله وترجحه بين الرأيين وتركه المضي على أحدهما بحال من يتردد في ذهابه فلا يجمع رجليه للمضي في وجهه. وكل واحد من الممثل والممثل به شيء مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة، وليس كذلك ما في هذه الآية ؛ فإن عرض الأمانة على الجماد وإباءه وإشفاقه محال في نفسه، غير مستقيم، فكيف صحّ بناء التمثيل على المحال، وما مقال هذا إلاّ أن تشبه شيئاً والمشبه به غير معقول. قلت : الممثل به في الآية وفي قولهم : لو قيل للشحم أين تذهب. وفي نظائره مفروض، والمفروضات تتخيل في الذهن كما المحققات : مثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحالة المفروضة لو عرضت على السماوات والأرض والجبال لأبين أن يحملنها وأشفقن منها. واللام في ) لّيُعَذّبَ ( لام التعليل على طريق المجاز : لأنّ التعذيب نتيجة حمل الأمانة، كما أن التأديب في ضربته للتأديب نتيجة الضرب. وقرأ الأعمش :( ويتوب ) ؛ ليجعل العلة قاصرة على فعل الحامل، ويبتدىء :