" صفحة رقم ٣٩٥ "
ولا يدل على هذا الوصف لفظ : ذو انتقام، إنما يدل على ذلك من خارج اللفظ.
آل عمران :( ٥ ) إن الله لا.....
( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء ( شيء نكرة في سياق النفي، فتعم، وهي دالة على كمال العلم بالكليات والجزئيات، وعبر عن جميع العالم بالأرض والسماء، إذ هما أعظم ما نشاهده، والتصوير على ما شاء من الهيئات دال على كمال القدرة، وبالعلم والقدرة يتم معنى القيومية، إذ هو القائم بمصالح الخلق ومهماتهم، وفي ذلك ردّ على النصارى، إذ شبهتهم في إدعاء إلهية عيسى كونه : يخبر بالغيوب، وهذا راجع إلى العلم، وكونه : يحيي الموتى، وهو راجع إلى القدرة. فنبهت الآية على أن الإله هو العالم بجميع الأشياء، فلا يخفي عليه شيء، ولا يلزم من كون عيسى عالماً ببعض المغيبات أن يكون إلها، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى لم يكن عالماً بجميع المعلومات، ونبهت على أن الإله هو ذو القدرة التامة، فلا يمتنع عليه شيء، ولا يلزم من كون عيسى قادراً على الإحياء في بعض الصور أن يكون إلهاً، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى لم يكن قادراً على تركيب الصور وإحيائها، بل إنباؤه ببعض المغيبات، وخلقه وأحياؤه بعض الصور، إنما كان ذلك بإنباء الله له على سبيل الوحي، وإقداره تعالى له على ذلك، وكلها على سبيل المعجزة التي أجراها، وأمثالها، على أيدي رسله.
وفي الذكر التصوير في الرحم ردّ على من زعم أن عيسى إله، إذ من المعلوم بالضرورة أنه صور في الرحم.
وقيل : في قوله ) لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْء ( تحذير من مخالفته سراً وجهراً، ووعيد بالمجازاة وقيل : المعنى شيء مما يقولونه في أمر عيسى عليه السلام. وقال الزمخشري : مطلع على كفر من كفر، وإيمان من آمن، وهو مجازيهم عليه. وقال الماتريدي : لا يخفى عليه شيء من الأمور الخفية عن الخلق، فكيف تخفي عليه أعمالكم التي هي ظاهرة عندكم ؟ وكل هذه تخصيصات. واللفظ عام، فيندرج فيه هذا كله. وقال الراغب : لا يخفى عليه شيء، أبلغ من : يعلم في الأصل، وإن كان استعمال اللفظين فيه يفيدان معنى واحداً.
آل عمران :( ٦ ) هو الذي يصوركم.....
وقال محمد بن جعفر بن الزبير، والربيع، في قوله :) هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ ( ردّ على أهل الطبيعة، إذ يجعلونها فاعلة مستبدة كيف يشاء. قال الماتريدي : فيه إبطال قول من يجعل قول القائف حجة في دعوى النسب، لأنه جعل علم التصوير في الأرحام لنفسه، فكيف يعرف القائف أنه صوره من مائه عند قيام التشابه في الصور ؟ انتهى.
والأحسن أن تكون هذه الجمل مستقلة، فتكون الأولى : إخباراً عنه تعالى بالعلم التام، والثانية : إخباراً بالقدرة التامة وبالإرادة. والثالثة : بالإنفراد بالإلهية، ويحتمل أن يكون خبراً عن : أن.
وقال الراغب، هنا : يصوركم، بلفظ الحال، وفي موضع آخر : فصوركم، لأنه لا اعتبار بالأزمنة في أفعاله، وإنما استعملت الألفاظ فيه للدلالة على الأزمنة بحسب اللغات، وأيضاً : فصوركم، إنما هو على نسبة التقدير، وإن فعله تعالى في حكم ما قد فرع منه. ويصوركم على حسب ما يظهر لنا حالاً فحالاً. انتهى.
وقرأ طاووس : تصوركم، أي صوركم لنفسه ولتعبده. كقولك : أثلت مالاً، أي : جعلته أثلة. أي : أصلاً. وتأثلته إذا أثلته لنفسك وتأتي : تفعَّل، بمعنى : فعل، نحو : تولى، بمعنى : ولي.
ومعنى ) كَيْفَ يَشَاء ( أي : من الطول والقصر، واللون، والذكورة والأنوثة، وغير ذلك من الاختلافات. وفي قوله :) كَيْفَ يَشَاء ( إشارة إلى أن ذلك يكون بسبب وبغير سبب، لأن ذلك متعلق بمشيئته فقط.
و : كيف، هنا للجزاء، لكنها لا تجزم. ومفعول : يشاء، محذوف لفهم المعنى، التقدير : كيف يشاء أن يصوركم. كقوله ) يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء ( أي : كيف يشاء أن ينفق، و : كيف، منصوب : بيشاء، والمعنى : على أي حال شاء أن يصوركم صوركم، ونصبه على الحال، وحذف فعل الجزاء لدلالة ما قبله عليه، نحو قولهم : أنت ظالم إن فعلت، التقدير : أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم، ولا موضع لهذه الجملة من الإعراب، وإن كانت متعلقة بما قبلها في المعنى، فتعلقها كتعلق إن فعلت، كقوله : أنت ظالم.
وتفكيك هذا الكلام وإعرابه على ما ذكرناه، لا يهتدى له إلاَّ بعد تمرّن في الإعراب، واستحضار للطائف النحو.
وقال بعضهم ) كَيْفَ يَشَاء ( في موضع الحال، معمول : يصوركم ؛ ومعنى الحال


الصفحة التالية
Icon