" صفحة رقم ٤١٧ "
وفي هذه الآية تسلية عن زخارف الدنيا، وتقوية لنفوس تاركها وتشريف الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، ولما قال : ذلك متاع، فأفرد، جاء : بخير من ذلكم، فأفرد اسم الإشارة، وإن كان هناك مشاراً به إلى ما تقدّم ذكره، وهو كثير. فهذا مشار به إلى ما أشير بذلك، و : خير، هنا أفعل التفضيل، ولا يجوز أن يراد به خير من الخيور، ويكون : من ذلكم، صفة لما يلزم في ذلك من أن يكون ما رغبوا فيه بعضاً مما هدوا فيه.
( لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ ( يحتمل أن يكون للذين متعلقاً بقوله : بخير من ذلكم، و : جنات، خبر مبتدأ محذوف أي : هو جنات، فتكون ذلك تبييناً لما أبهم في قوله : بخير من ذلكم ويؤيد ذلك قراءة يعقوب : جنات، بالجر بدلاً من : بخير، كما تقول : مررت برجل زيد، بالرفع و : زيد بالجر، وجوّز في قراءة يعقوب أن يكون : جنات، منصوباً على إضمار : أعني، ومنصوباً على البدل على موضع بخير، لأنه نصب. ويحتمل أن يكون : للذين، خبرا لجنات، على أن تكون مرتفعة على الإبتداء، ويكون الكلام تم عند قوله : بخير من ذلكم، ثم بين ذلك الخير لمن هو، فعلى هذا العامل في : عند ربهم، العامل في : للذين، وعلى القول الأول العامل فيه قوله : بخير.
( خَاالِدِينَ فِيهَا وَأَزْواجٌ مُّطَهَّرَةٌ ( تقدّم تفسير هذا وما قبله.
( وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ ( بدأ أولاً بذكر المقر، وهو الجنات التي قال فيها ) وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ ( ( فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) ثم انتقل من ذكرها إلى ذكر ما يحصل به الأنس التامّ من الأزواج المطهرة، ثم انتقل من ذلك إلى ما هو أعظم الأشياء وهو رضا الله عنهم، فحصل بمجموع ذلك اللذة الجسمانية والفرح الروحاني، حيث علم برضا الله عنه، كما جاء في الحديث أنه تعالى :( يسأل أهل الجنة هل رضيم ؟ فيقولون : ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ؟ فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا رب وأي شيء أفضل من ذلك ؟ قال : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا.
ففي هذه الآية الإنتقال من عال إلى أعلى منه، ولذلك جاء في سورة براءة، قد ذكر تعالى الجنات والمساكن الطيبة فقال :) وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ( يعنى أكبر مما ذكر من ذكر من الجنات والمساكن. وقال الماتريدي : أهل الجنة مطهرون لأن العيوب في الأشياء علم الفناء، وهم خلقوا للبقاء، وخص النساء بالطهر لما فيهنّ في الدنيا من فضل المعايب والأذى.
وقال أبو بكر : ورضوان، بالضم حيث وقع إلاَّ في ثاني العقود، فعنه خلاف. وباقي السبعة بالكسر، وقد ذكرنا أنهما لغتان.
( وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ( أي بصير بأعمالهم، مطلع عليها، فيجازي كلاً بعمله، فتضمنت الوعد والوعيد.
آل عمران :( ١٦ ) الذين يقولون ربنا.....
ولما ذكر المتقين أفهم مقابلهم فختم الآية بهذا.
( الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( لما ذكر أن الجنة للمتقين ذكر شيئاً من صفاتهم، فبدأ بالإيمان الذي هو رأس التقوى، وذكر دعاءهم ربهم عند الإخبار عن أنفسهم بالإيمان، وأكد الجملة بأن مبالغة في الإخبار، ثم سألوا الغفران ووقايتهم من العذاب مرتباً ذلك على مجرد الإيمان، فدل على أن الإيمان يترتب عليه المغفرة، ولا يكون الإيمان عبارة عن سائر الطاعات، كما يذهب إليه بعضهم، لأن من تاب وأطاع الله لا يدخله النار بوعده الصادق، فكان يكون السؤال في أن لا يفعله مما لا ينبغي، ونظيرها، ( بِنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً ( الآية، فالصفات الآتية بعد هذا ليست شرائط بل هي صفات تقتضي كمال الدرجات. وقال الماتريدي : مدحهم تعالى بهذا القول، وفيه تزكية أنفسهم بالإيمان، والله تعالى نهى عن تزكية الأنفس بالطاعات، كما قال تعالى :) فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ ( فلو كان الإيمان إسما لجميع الطاعات لم يرض منهم التزكية بالإيمان، كما لم يرضها بسائر الطاعات، فالآية حجة من جعل الطاعات من الإيمان، وفيها دلالة على أن إدخال الاستثناء في الإيماغن باطل، لأنه رضيه منهم دون استثناء. إنتهى.
قيل : ولا تدل على شيء من التزكية ولا من الاسثنتاء، لأن قولهم : آمنا، هو اعتراف بما أمروا به، فلا يكون ذلك تزكية منهم لأنفسهم، ولأن الاستثناء إنما هو فيما يموت عليه المرء، لا فيما هو متصف به، ولا قائل بأن الإيمان الذي يتصف به العبد يجوز الاستثناء فيه، فإن ذلك محال عقلاً.
وأعرب : الذين يقولون، صفة وبدلاً ومقطوعاً لرفع أو لنصب، ويكون ذلك من توابع :) الَّذِينَ اتَّقَوْاْ ( أو من توابع : العباد، والأول أظهر.
آل عمران :( ١٧ ) الصابرين والصادقين والقانتين.....
( الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِين