" صفحة رقم ١٦٢ "
ومعناه : أن الحمد واجب على أهل السموات وأهل الأرض، وكان الحسن يذهب إلى أن هذه الآية مدنية، لأنه كان يقول : فرضت الخمس بالمدينة. وقال الأكثرون : بل فرضت بمكة ؛ وفي التحرير، اتفق المفسرون على أن الخمس داخلة في هذه الآية. وعن ابن عباس : ما ذكرت الخمس إلا فيها، وقدم الإمساء على الإصباح، كما قدم في قول ) يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ (، والظلمات على النور، وقابل بالعشي الإمساء، وبالإظهار الإصباح، لأن كلا منهما يعقب بما يقابله ؛ فالعشي يعقبه الإمساء، والإصباح يعقبه الإظهار. ولما لم يتصرف من العشي فعل، لا يقال أعشى، كما يقال أمسى وأصبح وأظهر، جاء التركيب ) وَعَشِيّاً ). وقرأ عكرمة : حينا تمسون وحينا تصبحون، بتنوين حين، والجملة صفة حذف منها العائد تقديره : تمسون فيه وتصبحون فيه. ولما ذكر الإبداء والإعادة، ناسب ذكره :) يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيّتِ (، وتقدم الكلام على هذه الآية في آل عمران. ) وَكَذالِكَ ( : أي مثل ذلك الإخراج، والمعنى : تساوي الإبداء والإعادة في حقه تعالى. وقرأ الجمهور :) تُخْرَجُونَ (، بالتاء المضمومة، مبنياً للمفعول ؛ وابن وثاب وطلحة والأعمش : بفتح تاء الخطاب وضم الراء.
ثم ذكر تعالى آياته من بدء خلق الإنسان، آية آية، إلى حين بعثه من القبر فقال :) وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ( : جعل خلقهم من تراب، حيث كان خلق أباهم آدم من تراب. و ) تَنتَشِرُونَ ( : تتصرفون في أغراضكم بثم المقتضية المهلة والتراخي. ونبه تعالى على عظيم قدرته بخلق الإنسان من تراب، وهو أبعد الأشياء عن درجة الإحياء، لأنه بارد يابس، والحياة بالحرارة والرطوبة، وكذا الروح نير وثقيل، والروح خفيف وساكن، والحيوان متحرك إلى الجهات الست، فالتراب أبعد من قبول الحياة من سائر الأجسام. ) مّنْ أَنفُسِكُمْ ( : فيها قولاً ) وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا (، إما كون حواء خلقت من ضلع آدم، وأما من جنسكم ونوعكم. وعلل خلق الأزواج بالسكون إليها، وهو الإلف. فمتى كان من الجنس، كان بينهما تألف، بخلاف الجنسين، فإن يكون بينهما التنافر، وهذه الحكمة في بعث الرسل من جنس بني آدم. ويقال : سكن إليه : مال، ومنه السكن : فعل بمعنى مفعول. ) مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ( : أي بالأزواج، بعد أن لم يكن سابقة تعارف يوجب التواد. وقال مجاهد والحسن وعكرمة : المودة : النكاح، والرحمة : الولد، كنى بذلك عنهما. وقيل : مودّة للشابة، ورحمة للعجوز. وقيل : مودة للكبير، ورحمة للصغير. وقيل : هما اشتباك الرحم. وقيل : المودة من الله، والبغض من الشيطان.
( وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ ( : أي لغاتكم، فمن اطلع على لغات رأى من اختلاف تراكيبها أو قوانينها، مع اتحاد المدلول، عجائب وغرائب في المفردات والمركبات. وعن وهب : أن الألسنة اثنان وسبعون لساناً، في ولد حام سبعة عشر، وفي ولد سام تسعة عشر، وفي ولد يافث ستة وثلاثون. وقيل : المراد باللغات : الأصوات والنغم. وقال الزمخشري : الألسنة : اللذات وأجناس النطف وأشكاله. خالف عز وجل بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس واحد، ولا جهارة، ولا حدة، ولا رخاوة، ولا فصاحة، ولا لكنة، ولا نظم، ولا أسلوب، ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله. انتهى. ) وَأَلْوانِكُمْ ( : السواد والبياض وغيرهما، والأنواع والضروب بتخطيط الصور، ولولا ذلك الاختلاف، لوقع الالتباس وتعطلت مصالح كثيرة من المعاملات وغيرها. وفيه آية بينة، حيث فرعوا من أصل واحد، وتباينوا في الأشكال على كثرتهم. وقرأ الجمهور :) لّلْعَالَمِينَ (، بفتح اللام، لأنها في نفسها آية منصوبة للعالم. وقرأ حفص وحماد بن شعيب عن أبي بكر، وعلقمة عن عاصم، ويونس عن أبي عمرو : بكسر اللام، إذ المنتفع بها إنما هم أهل العلم، كقوله :) وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ ). والظاهر أن ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ ( متعلق ) بمنامكم (، فامتن تعالى بذلك، لأن النهار قد يقام فيه، وخصوص من كل مشتغلاً في حوائجه بالليل. ) وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مّن فَضْلِهِ ( : أي فيهما، أي في الليل والنهار معاً، لأن بعض الناس قد يبتغي الفعل بالليل، كالمسافرين والحراس بالليل وغيرهم.
وقال الزمخشري : هذا من باب اللف، وترتيبه :) وَمِنْ ءايَاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ (، ولأنه فصل بين الفريقين الأولين بالقرينين الآخرين لأنهما زمانان، والزمان والواقع فيه كشيء واحد مع إعانة اللف على ذلك، ويجوز أن يراد ) مَنَامُكُم ( في الزمانين، ( وَابْتِغَاؤُكُمْ مّن فَضْلِهِ ( فيهما. والظاهر هو الأول لتكرره في القرآن، وأسد المعاني ما دل عليه القرآن. وقال ابن عطية : وقال بعض المفسرين : في الكلام تقديم وتأخير، وهذا ضعيف، وإنما أراد أن ترتب النوم في الليل والابتغاء للنهار، ولفظ الآية لا يعطي ذلك. ) وَمِنْ


الصفحة التالية
Icon