" صفحة رقم ٢٩٨ "
٠ حق قدره، وخشوه حق خشيته، ومن ازداد به علماً ازداد منه خوفاً، ومن كان علمه به أقل كان آمن، وقد وردت أحاديث وآثار في الخشية. وقيل : نزلت في أبي بكر الصديق، وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه. ومن ادعى أن إنما للحصر قال : المعنى ما يخشى الله إلا العلماء، فغيرهم لا يخشاه، وهو قول الزمخشري. وقال ابن عطية : وإنما في هذه الآية تخصيص العلماء لا الحصر، وهي لفظة تصلح للحصر وتأتي أيضاً دونه، وإنما ذلك بحسب المعنى الذي جاءت فيه. انتهى.
وجاءت هذه الجملة بعد قوله :) أَلَمْ تَرَ (، إذ ظاهره خطاب للرسول، حيث عدد آياته وأعلام قدرته وآثار صنعته، وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس، وما يستدل به عليه وعلى صفاته، فكأنه قال : إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك ممن عرفه حق معرفته. وقرأ الجمهور : بنصب الجلالة ورفع العلماء. وروي عن عمر بن عبد العزيز وأبي حنيفة عكس ذلك، وتؤولت هذه القراءة على أن الخشية استعارة للتعظيم، لأن من خشي وهابه أجل وعظم من خشيه وهاب، ولعل ذلك لا يصح عنهما. وقد رأينا كتباً في الشواذ، ولم يذكروا هذه القراءة، وإنما ذكرها الزمخشري، وذكرها عن أبي حيوة أبو القاسم يوسف بن جبارة في كتابه الكامل. ) إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ( : تعليل للخشية، إذ العزة تدل على عقوبة العصاة وقهرهم، والمغفرة على إنابة الطائعين والعفو عنهم.
( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ ( : ظاهره يقرأون، ( كِتَابِ اللَّهِ ( : أي يداومون تلاوته. وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير : هذه آية القراء، ويتبعون كتاب الله، فيعملون بما فيه ؛ وعن الكلبي : يأخذون بما فيه. وقال السدي : هم أصحاب الرسول ( ﷺ ) )، ورضي عنهم وقال :( عطاءهم المؤمنون ). ولما ذكر تعالى وصفهم بالخشية، وهي عمل القلب، ذكر أنهم يتلون كتاب الله، وهو عمل اللسان. ) وَالَّذِينَ يُمَسّكُونَ ( : وهو عمل الجوارح، وينفقون : وهو العمل المالي. وإقامة الصلاة والإنفاق : يقصدون بذلك وجه الله، لا للرياء والسمعة. ) تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ( : لن تكسد، ولا يتعذر الربح فيها، بل ينفق عند الله. ) لِيُوَفّيَهُمْ ( : متعلق بيرجون، أو بلن تبور، أو بمضمر تقديره : فعلوا ذلك، أقوال. وقال الزمخشري : وإن شئت فقلت : يرجون في موضع الحال على وأنفقوا راجين ليوفيهم، أي فعلو جميع ذلك لهذا الغرض. وخبر إن قوله :) إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ( لأعمالهم، والشكر مجاز عن الإثابة. انتهى. وأجورهم هي التي رتبها تعالى على أعمالهم، وزيادته من فضله. قال أبو وائل : بتشفيعهم فيمن أحسن إليهم. وقال الضحاك : بتفسيح القلوب، وفي الحديث :( بتضعيف حسناتهم ). وقيل : بالنظر إلى وجهه. والكتاب : هو القرآن، ومن : للتبين أو الجنس أو التبعيض، تخريجات للزمخشري. ) وَمُصَدّقًا ( : حال مؤكدة لما ) بَيْنَ يَدَيْهِ ( من الكتب الإلهية : التوراة والانجيل والزبور وغيره، وفيه إشارة إلى كونه وحياً، لأنه عليه السلام لم يكن قارئاً كاتباً، وأتى ببيان ما في كتب الله، ولا يكون ذلك إلا من الله تعالى. ) إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ( : عالم بدقائق الأشياء وبواطنها، بصير بما ظهر منها، وحيث أهلك لوحيه، واختارك برسالته وكتابه، الله أعلم حيث يجعل رسالاته.
( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ (، وثم قيل : بمعنى الواو، وقيل : للمهلة، إما في الزمان، وإما في الإخبار على ما يأتي بيانه. والكتاب فيه قولان، أحدهما : أن المعنى : أنزلنا الكتب الإلهية، والكتاب على هذا اسم جنس. والمصطفون، على ما يأتي بيانه أن المعنى : الأنبياء وأتباعهم، قاله الحسن. وقال ابن عباس : هم هذه الأمة، أورثت أمة محمد ( ﷺ ) )، كل كتاب أنزله الله. وقال ابن جرير : أورثهم الإيمان، فالكتب تأمر باتباع القرآن، فهم مؤمنون بها عاملون بمقتضاها، يدل عليه :) وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ (، ثم أتبعه بقوله :) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ (، فعلمنا أنهم أمة محمد ( ﷺ ) )، إذ كان معنى الميراث : انتقال شيء من قوم إلى قوم، ولم تكن أمة انتقل إليها كتاب من قوم كانوا قبلهم غير أمته. فإذا قلنا : هم الأنبياء وأتباعهم، كان المعنى : أورثنا كل كتاب أنزل على نبي، ذلك النبي وأتباعه. والقول الثاني : أن الكتاب هو القرآن، والمصطفون أمة الرسول، ومعنى أورثنا، قال مجاهد : أعطينا، لأن الميراث عطاء. ثم قسم الوارثين إلى هذه الأقسام