" صفحة رقم ٣٦١ "
فأنكر عليهم بقوله :) الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ ( : أي خلقناهم وهم لا يشهدون شيئاً من حالهم، كما قال في الأخرى :) أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ ( وكما قال ) مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ ). ثم أخبر عنهم ثالثاً بأعظم الكفر، وهو ادعاؤهم أنه تعالى قد ولد، فبلغ إفكهم إلى نسبة الولد. ولما كان هذا فاحشاً قال :) وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ). واحتمل أن تخص هذه الجملة بقولهم ولد الله، ويكون تأكيد لقوله :) مِّنْ إِفْكِهِمْ (، واحتمل أن يعم هذا القول. فإن قلت : لم قال :) وَهُمْ شَاهِدُونَ (، فخص علمهم بالمشاهدة ؟ قلت : ما هو إلا استهزاء وتجهيل كقوله :) أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ (، وذلك أنهم كما لم يعلموا ذلك بطريق المشاهدة، لم يعلموه بخلق الله علمه في قلوبهم ولا بإخبار صادق، لا بطريق استدلال ولا نظر. ويجوز أن يكون المعنى أنهم يقولون ذلك، كالقائل قولاً عن ثلج صدر وطمأنينة نفس لإفراط جهلهم، كأنهم قد شاهدوا خلقه. وقرأ :) وَلَدَ اللَّهُ ( : أي الملائكة ولده، والولد فعل بمعنى مفعول يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث. تقول : هذه ولدي، وهؤلاء ولدي. انتهى.
وقرأ الجمهور :) اصْطَفَى (، بهمزة الاستفهام، على طريقة الإنكار والاستبعاد. وقرأ نافع في رواية إسماعيل وابن جماز وجماعة، وإسماعيل عن أبي جعفر وشيبة : بوصل الألف، وهو من كلام الكفار. حكى الله تعالى شنيع قولهم، وهو أنهم ما كفاهم أن قالوا ولد الله، حتى جعلوا ذلك الولد بنات الله، والله تعالى اختارهم على البنين. وقال الزمخشري : بدلاً عن قولهم ولد الله، وقد قرأ بها حمزة والأعمش، وهذه القراءة، وإن كان هذا محملها، فهي ضعيفة ؛ والذي أضعفها أن الإنكار قد اكتنف هذه الجملة من جانبيها، وذلك قوله :) وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (، ( مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ). فمن جعلها للإثبات فقد أوقعها دخيلة بين سببين، وليست دخيلة بين نسيبين، بل لها مناسبة ظاهرة مع قولهم ولد الله. وأما قوله :) وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (، فهي جملة اعتراض بين مقالتي الكفر، جاءت للتشديد والتأكيد في كون مقالتهم تلك هي من إفكهم. ) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( : تقريع وتوبيخ واستفهام عن البرهان والحجة. وقرأ طلحة بن مصرف : تذكرون، بسكون الذال وضم الكاف. ) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ ( : أي حجة نزلت عليكم من السماء، وخبر بأن الملائكة بنات الله. ) فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ (، الذي أنزل عليكم بذلك، كقوله :) أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً (، فهو يتكلم بما كانوا به يشركون.
( وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبّحُونَ وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الاْوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاء صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ سُبْحَانَ رَبّكَ رَبّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ).
الظاهر أن الجنة هم الشياطين، وعن الكفار في ذلك مقالات شنيعة. منها أنه تعالى صاهر سروات الجن، فولد منهم الملائكة، وهم فرقة من بني مدلج، وشافه بذلك بعض الكفار أبا بكر الصديق. ) وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ ( : أي الشياطين، أنها محضرة أمر الله من ثواب وعقاب، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري : إذا فسرت الجنة بالشياطين، فيجوز أن يكون الضمير في ) إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ( لهم. والمعنى أن الشياطين عالمون أن الله يحضرهم النار ويعذبهم، ولو كانوا مناسبين له، أو شركاء في وجوب الطاعة، لما عذبهم. وقيل : الضمير في ) وَجَعَلُواْ ( لفرقة من كفار قريش والعرب، والجنة : الملائكة، سموا


الصفحة التالية
Icon