" صفحة رقم ٣٩٩ "
سبق منه الكذب والكفر. قال ابن عطية : لا يهدي الكاذب الكافر في حال كذبه وكفره. وقال الزمخشري : المراد بمنع الهداية : منع اللطف تسجيلاً عليهم بأن لا لطف لهم، وأنهم في علم الله من الهالكين. انتهى، وهو على طريق الاعتزال. وقرأ أنس بن مالك، والجحدري، والحسن، والأعرج، وابن يعمر : كذاب كفار. وقرأ زيد بن علي : كذوب وكفور.
ولما كان من كذبهم دعوى بعضهم أن الملائكة بنات الله، وعبدوها عقبه بقوله :) لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً (، تشريفاً له وتبنياً، إذ يستحيل أن يكون ذلك في حقه تعالى بالتوالد المعروف، ( لاَّصْطَفَى ( : أي اختار من مخلوقاته ما يشاء ولداً على سبيل التبني، ولكنه تعالى لم يشأ ذلك لقوله :) وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً (، وهو عام في اتخاذ النسل واتخاذ الاصطفاء. ويدل على أن الاتخاذ هو التبني، والاصطفاء قوله :) مِمَّا يَخْلُقُ ( : أي من التي أنشأها واخترعها ؛ ثم نزه تعالى نفسه تنزيهاً مطلقاً فقال :) سُبْحَانَهُ (، ثم وصف نفسه بالوحدانية والقهر لجميع العالم. وقال الزمخشري : يعني لو أراد اتخاذ الولد لامتنع، ولم يصح لكونه محالاً، ولم يتأت إلا أن يصطفى من خلقه بعضهم، ويختصهم ويقربهم كما يختص الرجل ولده ويقربه، وقد فعل ذلك بالملائكة، فافتتنتم به وغركم اختصاصه إياهم، فزعمتم أنهم أولاده جهلاً منكم به وبحقيقة المخالفة لحقائق الأجسام والأعراض، كأنه قال : لو أراد اتخاذ الولد، لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما شاء من خلقه، وهم الملائكة، فليس مفهوماً من قوله :) لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء ).
ولما نزه تعالى نفسه ووصف ذاته بالوحدة والقهر، ذكر ما دل على ذلك من اختراع العالم العلوي والسفلي بالحق، وتكوير الليل والنهار، وتسخير النيرين وجريهما على نظام واحد، واتساق أمرهما على ما أراد إلى أجل مسمى، وهو يوم القيامة، حيث تخرب بنية هذا العالم فيزول جريهما، أو إلى وقت مغيبهما كل يوم وليلة، أو وقت قوايسها كل شهر. والتكوير : تطويل منهما على الآخر، فكأنه الآخر صار عليه جزء منه. قال ابن عباس : يحمل الليل على النهار. وقال الضحاك : يدخل الزيادة في أحدهما بالنقصان من الآخر. وقال أبو عبيدة : يدخل هذا على هذا. وقال الزمخشري : وفيه أوجه : منها أن الليل والنهار خلفة، يذهب هذا ويغشى مكانه هذا ؛ وإذا غشي مكانه فكأنما ألبسه ولف عليه كما يلف على اللابس اللباس ؛ ومنها أن كل واحد منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه من مطامح الأبصار ؛ ومنها أن هذا يكر على هذا كروراً متتابعاً، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض. انتهى. ) أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ( : العزيز الذي لا يغالب، الغفار لمن تاب، أو الحليم الذي لا يعجل، سمى الحلم غفراناً مجازاً.
ولما ذكر ما دل على واحدانيته وقهره، ذكر الإنسان، وهو الذي كلف بأعباء التكاليف، فذكر أنه أوجدنا من نفس واحدة، وهي آدم عليه السلام، وذلك أن حواء على ما روي خلقت من آدم، فقد صار خلقاً من نفس واحدة لوساطة حواء. وقيل : أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر، ثم خلق بعد ذلك حواء، فعلى هذا كان خلقاً من آدم بغير واسطة. وجاءت على هذا القول على وضعها، ثم للمهلة في الزمان، وعلى القول الأول يظهر أن خلق حواء كان بعد خلقنا، وليس كذلك. فثم جاء لترتيب الأخبار كأنه قيل : ثم كان من أمره قبل ذلك أن جعل منها زوجها، فليس الترتيب في زمان الجعل. وقيل : ثم معطوف على الصفة التي هي واحدة، أي من نفس وحدت، أي انفردت.
( ثُمَّ جَعَلَ (، قال الزمخشري : فإن قلت : ما وجه قوله تعالى :) ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا (، وما تعطيه من معنى التراخي ؟ قلت : هما آيتان من