" صفحة رقم ٤٠٦ "
لضميره مبنياً عليه فيه تفخيم للمنزل ورفع منه، كما تقول : الملك أكرم فلاناً، هو أفخم من : أكرم الملك فلاناً. وحكمة ذلك البداءة بالأشراف من تذكر ما تسند إليه، وهو كثير في القرآن، كقوله :) اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً ( /
و ) وكتاباً ( بدل من ) نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ). وقال الزمخشري : ويحتمل أن يكون حالاً. انتهى. وكان بناء على أن ) أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ( معرفة لإضافته إلى معرفة. وأفعل التفضيل، إذا أضيف إلى معرفة، فيه خلاف. فقيل : إضافته محضة، وقيل : غير محضة. و ) مُّتَشَابِهاً ( : مطلق في مشابهة بعضه بعضاً. فمعانيه متشابهة، لا تناقض فيها ولا تعارض، وألفاظه في غاية الفصاحة والبلاغة والتناسب، بحيث أعجزت العظماء والبلغاء. وقرأ الجمهور :) مَّثَانِيَ (، بفتح الياء ؛ وهشام، وابن عامر، وأبو بشر : بسكون الياء، فاحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف، واحتمل أن يكون منصوباً، وسكن الياء على قول من يسكن الياء في كل الأحوال، لانكسار ما قبلها استثقالا للحركة عليها. ومثاني يظهر أنه جمع مثنى، ومعناه : موضع تثنية القصص والأحكام والعقائد والوعد والوعيد. وقيل : يثني في الصلاة بمعنى : التكرير والأعادة. انتهى. ووصف المفرد بالجمع، لأن فيه تفاصيل، وتفاصيل الشيء جملته. ألا ترى أنك تقول : القرآن سور وآيات ؟ فكذلك تقول : أحكام ومواعظ مكررات، وأصله كتاباً متشابهاً فصولاً مثاني، حذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه. وأجاز الزمخشري أن يكون من باب برمة أعشار وثوب أخلاق، وأن يكون تمييزاً عن متشابهاً، فيكون منقولاً من الفاعل، أي متشابهاً مثانية. كما تقول : رأيت رجلاً حسناً شمائل، وفائدة تثنيته وتكرره رسوخه في النفوس، إذ هي أنفر شيء عن سماع الوعظ والنصيحة. والظاهر حمل القشعريرة على الحقيقة، إذ هو موجود عند الخشية، محسوس يدركه الإنسان من نفسه، وهو حاصل من التأثر القلبي. وقيل : هو تمثيل تصوير لإفراط خشيتهم، والمعنى : أنه حين يسمعونه يتلي ما فيه من آيات الوعيد، عرتهم خشية تنقبض منها جلودهم.
ثم إذا ذكروا لله ورحمته لانت جلودهم، أي زال عنها ذلك التقبض الناشىء عن خشية القلوب بزوال الخشية عنها، وضمن تلين معنى تطمئن جلودهم لينة غير منقبضة، وقلوبهم راجية غير خاشية، ولذلك عداه بإلى. وكان في ذكر القلوب في هذه الجملة دليل على تأثرها عند السماع، فاكتفى بقشعريرة الجلود عن ذكر خشية القلوب لقيام المسبب مقام السبب. فلما ذكر اللين ذكرهما، وفي ذكر اللين دليل على المحذوف الذي هو رحمة الله، كما كان في قوله :) إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ (، دليل بقوله :) وَجِلَتْ ( عن ذكر المحذوف، أي إذا ذكر وعيد الله وبطشه. وقال العباس بن عبد المطلب : قال النبي عليه السلام :( من اقشعر جلده من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها ). وقال ابن عمر : وقد رأى ساقطاً من سماع القرآن فقال : إنا لنخشى الله، وما نسقط هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم. وقالت أسماء بنت أبي بكر : كان أصحاب رسول الله ( ﷺ ) ) تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم عند سماع القرآن، قيل لها : إن قوماً اليوم إذا اسمعوا القرآن خر أحدهم مغشياً عليه، فقالت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وقال ابن سيرين : بيننا وبين هؤلاء الذين بصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط باسطاً رجليه، ثم يقرأ عليه القرآن كله، فإن رمى بنفسه فهو صادق. والإشارة بذلك إلى الكتاب، أو إلى ذينك الوصفين من الاقشعرار واللين، أي أثر هدى الله. ) أَفَمَن يَتَّقِى ( : أي يستقبل، كما قال الشاعر : سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
فتناولته واتقتنا باليد
أي : استقبلتنا بيدها لتقي بيدها وجهها أن يرى. والظاهر حمل بوجهه على حقيقته. لما كان يلقي في النار مغلولة