" صفحة رقم ٤٦٦ "
متروك يدل عليه الظاهر، وتقديره : فأوجدها وأتقنها وأكمل أمورها، وحينئذ ) قَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا ). ورجح قول من ذهب إلى أنهما نطقتا نطقاً حقيقياً، وجعل الله لهما حياة وإدراكاً يقتضي نطقهما، بعد أن ذكر أن المفسرين منهم من ذهب إلى أن ذلك مجاز، وأنه ظهر منهما عن اختيار الطاعة والتذلل والخضوع ما هو بمنزلة القول، قال : والقول الأول أحسن، لأنه لا شيء يدفعه، وأن العبرة فيه أتم، والقدرة فيه أظهر. انتهى.
وقال الزمخشري : ويعني أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما أنه أراد تكوينهما، فلم يمتنعا عليه، ووجدنا كما أرادهما، وجاءتا في ذلك كالمأمور المطيع، إذ أورد عليه فعل الآمر فيه. على أن الله تعالى كلم السماء والأرض وقال لهما :) ائْتِيَا (، شئتما ذلك أو أبيتما، فقالتا : آتينا على الطوع لا على الكره. والغرض تصوير أثر قدرته في المقدورات لا غيره، من غير أن يحقق شيء من الخطاب والجواب، ونحوه قول القائل : قال الجدار للوتد : لم تشقني ؟ قال الوتد : سل من يدقني، فلم يتركني وراء الحجر الذي ورائي. فإن قلت : لم ذكر السماء مع الأرض وانتظمهما في الأمر بالإتيان، والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين ؟ قلت : قد خلق جرم الأرض أولاً غير مدحوة، ثم دحاها بعد خلق السماء، كما قال :) وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (، فالمعنى : ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف ؛ ائت يا أرض مدحوة قراراً ومهاداً لأهلك، وائت يا سماء مقببة سقفاً لهم. ومعنى الإتيان : الحصول والوقوع، كما يقول : أتى عمله مرضياً مقبولاً. ويجوز أن يكون المعنى : لتأت كل واحدة صاحبتها الإتيان الذي أريده وتقتضيه الحكمة، والتدبير من كون الأرض قراراً للسماء، وكون السماء سقفاً للأرض، وينصره قراءة من قرأ : أتيا وأتينا من المواتاة، وهي الموافقة، أي لتوات كل واحدة أختها ولتوافقها، قالتا : وافقنا وساعدنا. ويحتمل وافقاً أمري ومشيئتي ولا تمتنعا. فإن قلت : ما معنى طوعاً أو كرهاً ؟ قلت : هو مثل للزوم تأثير قدرته فيهما، وأن امتناعهما من تأثير قدرته محال، كما يقول الجبار لمن يحب بلوه : لتفعلن هذا شئت أو أبيت، ولتفعلنه طوعاً أو كرهاً. وانتصابهما على الحال بمعنى طائعتين أو مكرهتين. فإن قلت : هلا قيل طائعتين على اللفظ أو طائعتان على المعنى لأنهما سموات وأرضون ؟ قلت : لما جعلت مخاطبات ومجيبات، ووصفت بالطوع والكره، قيل : طائعين في موضع طائعات نحو قوله : ساجدين. انتهى. وقرأ الجمهور : ائتيا من الإتيان، أي ائتيا أمري وإرادتي. وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد : أتيا على وزن فعلا، قالتا : أتينا على وزن فعلنا، من آتى يؤتى، كذا قال ابن عطية، قال : وذلك بمعنى أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما، والإشارة بهذا كله إلى تسخيرها وما قدره الله من أعمالها. انتهى. وتقدم في كلام الزمخشري أنه جعل هذه القراءة من المواتاة، وهي الموافقة، فيكون وزن آتيا : فاعلاً، وآتينا : فاعلنا، وتقدمه إلى ذلك أبو الفضل الرازي قال : آتينا بالمد على فاعلنا من المواتاة، ومعناه : سارعنا على حذف المفعول منه، ولا يجوز أن يكون من الإيتاء الذي هو الإعطاء لبعد حذف مفعوله. انتهى. وقرأ الأعمش : أو كرهاً بضم الكاف، والأصح أنه لغة في الإكراه على الشيء الموقوع التخيير بينه وبين الطواعية، والأكثر أن الكره بالضم معناه المشقة. قال ابن عطية : وقوله قالتا، أراد الفرقتين المذكورتين : جعل السموات سماء، والأرضين أرضاً، وهذا نحو قول الشاعر : ألم يحزنك أن حبال قومي
وقومك قد تباينتا انقطاعاً
وعبر عنها بتباينتا. انتهى. هذا وليس كما ذكر، لأنه إنما تقدم ذكر الأرض مفردة والسماء مفرد لحسن التعبير عنهما بالتثنية، والبيت هو من وضع الجمع موضع التثنية، كأنه قال : ألم يحزنك أن حبلي قومي وقومك ؟ ولذلك ثنى في قوله : تباينتا، وأنث على معنى الحبل، لأنه لا يريد به الحبل حقيقة، إنما عنى به الذمة والمودة التي كانت بين قومهما.
والظاهر من هذه الآية أنه خلق الأرض وجعل فيها الرواسي وبارك فيها، ثم أوجد السماء من الدخان فسواها سبع سموات، فيكون خلق الأرض


الصفحة التالية
Icon