" صفحة رقم ٨٤ "
كفار الأمم، والسلام على الأنبياء وأتباعهم الناجين.
وقيل :) قُلْ (، خطاب للوط عليه السلام أن يحمد الله على هلاك كفار قومه، ( وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ). وعزا هذا القول ابن عطية للفراء، وقال : هذه عجمة من الفراء. وقرأ أبو السمال :) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ (، وكذا : قل الحمد لله سيريكم، بفتح اللام، وعباده المصطفون، يعم الأنبياء وأتباعهم. وقال ابن عباس : العباد المسلم عليهم هم أصحاب رسول الله ( ﷺ ) )، اصطفاهم لنبيه، وفي اختصاصهم بذلك توبيخ للمعاصرين من الكفار. وقال أبو عبد الله الرازي : لما ذكر تعالى أحوال الأنبياء، وأن من كذبهم استؤصل بالعذاب، وأن ذلك مرتفع عن أمة الرسول، أمره تعالى بحمده على ما خصه من هذه النعمة، وتسليمه على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة. انتهى، وفيه تلخيص.
وقوله :) اللَّهِ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ( : استفهام فيه تبكيت وتوبيخ وتهكم بحالهم، وتنبيه على موضع التباين بين الله تعالى وبين الأوثان، إذ معلوم عند من له عقل أنه لا شركة في الخيرية بين الله تعالى وبينهم، وكثيراً ما يجيء هذا النوع من أفعل التفضيل حيث يعلم ويتحقق أنه لا شركه فيها وإنما يذكر على سبيل إلزام الخصم وتنبيهه على خطا مرتكبه. والظاهر أن هذا الاستفهام هو عن خبرية الذوات، فقيل : جاء على اعتقاد المشركين حيث اعتقدوا في آلهتهم خيراً بوجه مّا، وقيل : في الكلام حذف في موضعين، التقدير : أتوحيد الله خير أم عبادة ما يشركون ؟ فيما في أم ما بمعنى الذي. وقيل : ما مصدرية، والحذف من الأول، أي أتوحيد الله خير أم شرككم ؟ وقيل : خير ليست للتفضيل، فهي كما تقول : الصلاة خير، يعني خيراً من الخيور. وقيل : التقدير ذو خير. والظاهر أن خيراً أفعل التفضيل، وأن الاستفهام في نحو هذا يجيء لبيان فساد ما عليه الخصم، وتنبيهه على خطئه، وإلزامه الإقرار بحصر التفضيل في جانب واحد، وانتفائه عن الآخر، وقرأ الجمهور : تشركون، بتاء الخطاب ؛ والحسن، وقتادة، وعاصم، وأبو عمرو : بياء الغيبة. وأم في أم ما متصلة، لأن المعنى : أيهما خير ؟ وفي ) أَم مَّنْ خَلَقْنَا ( وما بعده منفصلة. ولما ذكر الله خيراً، عدّد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله، كما عدّدها في غير موضع من كتابه، توقيفاً لهم على ما أبدع من المخلوقات، وأنهم لا يجدون بداً من الإقرار بذلك لله تعالى.
وقرأ الجمهور :) أَمَّنْ خَلَقَ (، وفي الأربعة بعدها بشد الميم، وهي ميم أم أدغمت في ميم من. وقرأ الأعمش : بتخفيفها جعلها همزة الاستفهام، أدخلت على من، ومن في القراءتين مبتدأ وخبره. قال ابن عطية : تقديره : يكفر بنعمته ويشك به، ونحو هذا من المعنى. وقدره الزمخشري : خير أما يشركون، فقدّر ما أثبت في الاستفهام الأول ؛ بدأ أولاً في الاستفهام باسم الذات، ثم انتقل فيه إلى الصفات. وقال أبو الفضل الرازي في ( كتاب اللوامح ) له : ولا بد من إضمار جملة معادلة، وصار ذلك المضمر كالمنطوق به لدلالة الفحوى عليه. وتقدير تلك الجملة : أمن خلق السموات كمن لم يخلق، وكذلك أخواتها، وقد أظهر في غير هذا الموضع ما أضمر فيها لقوله تعالى :) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ). انتهى. وتسمية هذا المقدّر جملة، إن أراد بها جملة من الألفاظ فهو صحيح، وإن أراد الجملة المصطلح عليها في النحو فليس كذلك، بل هو مضمر من قبيل المفرد. وبدأ تعالى بذكر إنشاء مقر العالم العلوي والسفلي، وإنزال ما به قوام العالم السفلي وقال :) لَكُمْ (، أي لأجلكم، على سبيل الامتنان، وأن ذلك من أجلكم. ثم قال :) فَأَنبَتْنَا (، وهذا التفات من الغيبة إلى التكلم بنون العظمة دالاً على اختصاصه بذلك، وأنه لم ينبت تلك الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطعوم والروائح بماء واحد إلا هو تعالى. وقد رشح هذا الاختصاص بقوله :) مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا ).
ولما كان خلق السموات والأرض، وإنزال الماء من السماء، لا شبهة للعاقل في أن ذلك لا يكون إلا لله، وكان الإنبات مما قد يتسبب فيه الإنسان بالبذر والسقي والتهيئة، ويسوغ لفاعل