" صفحة رقم ٨٩ "
يَشْعُرُونَ (، كان معناه : بلى يشعرون، ثم فسر الشعور بقوله : ادرك علمهم في الآخرة، على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم، فكأنه قال : شعورهم بوقت الآخرة أنهم لا يعلمون، كونها، فيرجع إلى المبالغة في نفي الشعور على أبلغ ما يكون. وأما من قرأ : بلى أدّرك، على الاستفهام فمعناه : يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها، لم يتحصل لهم شعور بوقت كونها، لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن. فإن قلت : هذه الإضرابات الثلاث ما معناه ؟ قلت : ما هي إلا تنزيل لأحوالهم، وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه، والإزالة مستطاعة، وقد جعل الآخر مبدأ عما هم ومنشأه، فلذلك عداه بمن دون عن، لأن العاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يبصرون. انتهى.
( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَءذَا كُنَّا تُرَاباً وَءابَاؤُنَا أَءنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا هَاذَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَاذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ قُلْ سِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِى السَّمَاء وَالاْرْضِ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يَقُصُّ عَلَى بَنِى إِسْراءيلَ أَكْثَرَ الَّذِى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤمِنِينَ إِن رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقّ الْمُبِينِ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ وَمَا أَنتَ بِهَادِى الْعُمْىِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِئَايَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مّنَ الاْرْضِ تُكَلّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِئَايَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ ).
لما تقدم أنه تعالى منفرد بعلم الغيب، ومن جملتها وقت الساعة، وأنهم لا شعور لهم بوقتها، وأن الكفار في شك منها عمون، ناسب ذكر مقالاتهم في استبعادها، وأن ما وعدوا به من ذلك ليس بصحيح، إنما ذلك ما سطر الأولون من غير إخبار بذلك عن حقيقة.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو :) أئذا، أئنا ( بالجمع بين الاستفهامين ؛ وقلب الثانية ياء، وفصل بينهما بألف أبو عمرو، وقرأهما عاصم وحمزة : بهمزتين، ونافع : إذا بهمزة مكسورة، آينا بهمزة الاستفهام، وقلب الثانية ياء، وبينهما مدة، والباقون : آئذا، باستفهام ممدود، إننا : بنونين من غير استفهام، والعامل في إذا محذوف دل على مضمون الجملة الثانية تقديره : يخرج ويمتنع إعمال لمخرجون فيه، لأن كلاًّ من إن ولام الابتداء والاستفهام يمنع أن يعمل ما بعده فيما قبله، إلا اللام الواقعة في خبر إن، فإنه يتقدم معمول الخبر عليها وعلى الخبر على ما قرر في علم النحو.
وآباؤنا : معطوف على اسم كان، وحسن ذلك الفصل بخبر كان. والإخراج هنا من القبور أحياء، مردوداً أرواحهم إلى الأجساد، والجمع بين الاستفهام في إذا وفي إنا إنكار على إنكار، ومبالغة في كون ذلك لا يكون، والضمير في إننا لهم وآبائهم، لأن صيرورتهم تراباً، شامل للجميع. ثم ذكروا أنهم وعدوا ذلك هم وآباؤهم، فلم يقع شيء من هذا الموعود، ثم جزموا وحصروا أن ذلك من أكاذيب من تقدم. وجاء هنا تقديم الموعود به، وهو هذا، وتأخر في آية أخرى على حسب ما سيق الكلام لأجله. فحيث تأكد الإخبار عنهم بإنكار البعث والآخرة، عمدوا إليها بالتقديم على سبيل الاعتناء، وحيث لم يكن ذلك، عمدوا إلى إنكار إيجاد المبعوث، فقدموه وأخروا الموعود به، ثم أمر نبيه أن يأمرهم بالسير في الأرض ؛ وتقدم الكلام في نظير هذه الآية في أوائل الأنعام. وأراد بالمجرمين : الكافرين، ثم سلي نبيه فقال :) أَزْوَاجًا مّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ( : أي في كونهم لم يسلموا ولم يذعنوا إلى ما جئت به، ( وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ ( : أي في حرج وأمر شاق عليك مما يمكرون (، فإن مكرهم لاحق بهم، لا بك، والله يعصمك منهم. وتقدّمت قراءة ضيق، بكسر الضاد وفيتحها، وهما مصدران. وكره أبو علي أن يكون المفتوح الضاد، أصله ضيق، بتشديد الياء فخفف، كلين في لين، لأن ذلك يقتضي حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، وليست من الصفات التي تقوم مقام الموصوف باطراد. وأجاز ذلك الزمخشري، قال : ويجوز أن يراد في أمر ضيق من مكرهم.
ولما استعجلت قريش بأمر