" صفحة رقم ٣٦٦ "
سحر.
المدثر :( ١٧ ) سأرهقه صعودا
) سَأُرْهِقُهُ ( : أي سأكلفه وأعنته بمشقة وعسر، ( صَعُوداً ( : عقبة في جهنم، كلما وضع عليها شيء من الإنسان ذاب ثم يعود، والصعود في اللغة : العقبة الشاقة، وتقدّم شرح عنيد في سورة إبراهيم عليه السلام.
المدثر :( ١٨ ) إنه فكر وقدر
) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ( : روي أن الوليد حاج أبا جهل وجماعة من قريش في أمر القرآن وقال : إن له لحلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن فرعه لجناة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى، ونحو هذا من الكلام، فخالفوه وقالوا : هو شعر، فقال : والله ما هو بشعر، قد عرفنا الشعر هزجه وبسيطه، قالوا : فهو كاهن، قال : والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان، قالوا : هو مجنون، قال : والله ما هو بمجنون، لقد رأينا المجنون وخنقه، قالوا : هو سحر، قال : أما هذا فيشبه أنه سحر ويقول أقوال نفسه. وروي هذا بألفاظ غير هذا ويقرب من حيث المعنى، وفيه : وتزعمون أنه كذب، فهل جربتم عليه شيئاً من الكذب ؟ فقالوا : في كل ذلك اللهم لا، ثم قالوا : فما هو ؟ ففكر ثم قال : ما هو إلا ساحر. أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه ؟ وما الذي يقوله إلا سحر يؤثره عن مثل مسيلمة وعن أهل بابل، فارتج النادي فرحاً وتفرّقوا متعجبين منه. وروي أن الوليد سمع من القرآن ما أعجبه ومدحه، ثم سمع كذلك مراراً حتى كاد أن يقارب الإسلام. ودخل إلى بكر الصديق رضي الله تعالى عنه مراراً، فجاءه أبو جهل فقال : يا وليد، أشعرت أن قريشاً قد ذمّتك بدخولك إلى ابن أبي قحافة، وزعمت أنك إنما تقصد أن تأكل طعامه ؟ وقد أبغضتك لمقاربتك أمر محمد، وما يخلصك عندهم إلا أن تقول في هذا الكلام قولاً يرضيهم، ففتنه أبو جهل فافتتن وقال : أفعل. ) إِنَّهُ فَكَّرَ ( : تعليل للوعيد في قوله :) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ). قيل : ويجوز أن يكون ) إِنَّهُ فَكَّرَ ( بدلاً من قوله :) إِنَّهُ كان لاْيَاتِنَا عَنِيداً (، بياناً لكنه عناده وفكر، أي في القرآن ومن أتى به، ( وَقَدَّرَ ( : أي في نفسه ما يقول فيه.
المدثر :( ١٩ - ٢٠ ) فقتل كيف قدر
) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (، قتل : لعن، وقيل : غلب وقهر، وذلك من قوله :
لسهميك في أعسار قلب مقتل
أي مذلل مقهور بالحب، فلعن دعاء عليه بالطرد والإبعاد وغلب، وذلك إخبار بقهره وذلته، و ) كَيْفَ قَدَّرَ ( معناه : كيف قدر ما لا يصح تقديره وما لا يسوغ أن يقدره عاقل ؟ وقيل : دعاء مقتضاه الاستحسان والتعجب. فقيل ذلك لمنزعه الأول في مدحه القرآن، وفي نفيه الشعر والكهانة والجنون عنه، فيجري مجرى قول عبد الملك بن مروان : قاتل الله كثيراً، كأنه رآنا حين قال كذا. وقيل : ذلك لإصابته ما طلبت قريش منه. وقيل : ذلك ثناء عليه على جهة الاستهزاء. وقيل : ذلك حكاية لما كرروه من قولهم : قتل كيف قدّر، تهكماً بهم وبإعجابهم بتقديره واستعظامهم لقوله، وهذا فيه بعد. وقولهم : قاتلهم الله، مشهور في كلام العرب أنه يقال عند استعظام الأمر والتعجب منه، ومعناه : أنه قد بلغ المبلغ الذي يحسد عليه ويدعى عليه من حساده، والاستفهام في ) كَيْفَ قَدَّرَ ( في معنى : ما أعجب تقديره وما أغربه، كقولهم : أي رجل زيد ؟ أي ما أعظمه.
وجاء التكرار بثم ليدل على أن الثانية أبلغ من الأولى للتراخى الذي بينهما، كأنه دعى عليه أولاً ورجى أن يقلع عن ما كان يرومه فلم يفعل، فدعى عليه ثانياً،
المدثر :( ٢١ ) ثم نظر
) ثُمَّ نَظَرَ ( : أي فكر ثانياً. وقيل : نظر إلى وجوه الناس،
المدثر :( ٢٢ ) ثم عبس وبسر
) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ( : أي قطب وكلح لما ضاقت عليه الحيل ولم يدر ما يقول. وقيل : قطب في وجه رسول الله e
المدثر :( ٢٣ ) ثم أدبر واستكبر
. ) ثُمَّ أَدْبَرَ ( : رجع مدبراً، وقيل : أدبر عن الحق، ( وَاسْتَكْبَرَ (، قيل : تشارس مستكبراً، وقيل : استكبر عن الحق، وصفه بالهيئات التي تشكل بها حين أراد أن يقول : ما قال كل ذلك على سبيل الاستهزاء، وأن ما يقوله كذب وافتراء، إذ لو كان ممكناً، لكان له هيئات غير هذه من فرح القلب وظهور السرور والجذل والبشر في وجهه، ولو كان حقاً لم يحتج إلى هذا الفكر لأن الحق أبلج يتضح بنفسه من غير إكداد فكر ولا إبطاء تأمّل. ألا


الصفحة التالية
Icon