صفحة رقم ٣٤٨
وسماه كلمة دون غيره ؟ قلت : إن كل مخلوق وإن وجد حدوثه بواسطة الكلمة إلاّ أن هذا السبب ما هو المتعارف، ولما كان حدوث عيسى عليه السلام بمجرد الكلمة من غير واسطة أخرى فلا جرم كان إضافة حدوثه إلى الكلمة أتم وأكمل وبهذا التأويل حسن أن يسمى عيسى عليه السلام نفس الكلمة لأنه حدث عنها، فإن قلت الضمير في قوله اسم عائد إلى الكلمة وهي مؤنثة فلم ذكر الضمير ؟ قلت : لأن المسمى بها مذكر فلهذا ذكر الضمير.
فإن قلت لم قال اسمه المسيح عيسى ابن مريم وهذه ثلاثة الاسم منها واحد وهو عيسى، وأما المسيح فلقب وابن مريم صفة.
قلت : الضمير في قوله اسمه يرجع إلى عيسى وللمسمى علامة يعرف بها ويتميز عن غيره فكأنه قال الذي يعرف به ويتميز عن سواه هو مجموع واسمه بالعبرانية مشيحا فغيرته العرب وأصل عيسى أيشوع كما قالوا موسى وأصله موشى أو ميشى وقال الأكثرون : إنه اسم مشتق ثم ذكروا فيه وجوهاً قال ابن عباس : سمي عيسى مسيحاً لأنه ما مسح ذا عاهة إلاّ برأ منها وقيل لأنه مسح بالبركة وقيل : لأنه مسح من الأقذار وطهر من الذنوب، وقيل : إنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن.
وقيل : لأن جبريل عليه السلام مسحه بجناحه حتى لا يكون للشيطان عليه سبيل.
وقيل : لأنه كان يسيح في الأرض ولا يقيم بمكان فكأنه يمسح الأرض أي يقطعها مساحة فعلى هذا القول تكون الميم زائدة وقيل سمي مسيحاً لأنه كان مسيح القدمين لا أخمص له وسمي الدجال لأنه ممسوح إحدى العينين وقيل : المسيح هو الصديق وبه سمي عيسى عليه السلام وقد يكون المسيح بمعنى الكذاب وبه سمي الدجال فعلى هذا تكون هذه الكلمة من الأضداد.
قوله تعالى :( وجيهاً ( أي شريفاً رفيعاً ذا جاه وقدر ) في الدنيا والآخرة ( أما وجاهته في الدنيا فبسبب النبوة وأنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى وأما وجاهته في الآخرة فبسبب علو مرتبته عند الله وهو قوله تعالى :( ومن المقربين ( يعني عند الله يوم القيامة لأن لأهل الجنة منازل ودرجات ومنازل الأنبياء ودرجاتهم أعلى من سواهم وقيل : فيه تنبيه على علو منزلته وأنه رفعه إلى السماء.
آل عمران :( ٤٦ - ٤٨ ) ويكلم الناس في...
" ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل " ( ) يكلم الناس في المهد ( يعني ويكلم الناس صغيراً وهو في المهد وذلك قبل أوان الكلام ووقته والكلام الذي تكلم به هو ما ذكره الله عنه في سورة مريم وهو قوله :( إني عبد الله آتاني الكتاب ( " الآية.
وتكلم ببراءة أمه مما رماها به أهل الفرية من القذف.
ويحكى أن مريم قالت كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدثني وحدثته فإذا شغلني عنه إنسان سبح وهو في بطني وأنا أسمع ولما تكلم ببراءة أمه سكت بعد ذلك فلم يتكلم إلاّ في الوقت الذي يتكلم فيه الصغير قال ابن عباس : تكلم عيسى ساعة ثم سكت ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق ) وكهلاً ( يعني يكلم الناس في حال الكهولة والكهل في اللغة هو الذي اجتمعت قوته وكمل شبابه والكهل عند العرب الذي جاوز الثلاثين وقيل : هو الذي وخطه الشيب، وهو السن الذي يستحكم فيه العقل وتتنبأ فيه الأنبياء.
قال ابن قتيبة : لما كان لعيسى ثلاثون سنة أرسله الله تعالى فمكث في رسالته ثلاثين شهراً ثم رفعه الله تعالى وقال وهب بن منبه : جاءه الوحي على رأس ثلاثين سنة فمكث في نبوته ثلاث سنين ثم رفعه الله فمعنى الآية أنه يكلم الناس وهو في المهد ببراءة أمه وهي معجزة عظيمة، ويكلم الناس في حال الكهولة بالدعوة والرسالة وقيل : فيه بشارة لمريم أخبرها بأنه يبقى حتى يكتهل وقيل : فيه أخبار بأنه يتغير من حال ولو كان إلهاً كما زعمت النصارى لم يدخل عليه التغيير