صفحة رقم ١٤٢
فقالوا : هؤلاء الذين تخلفوا عنك فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم وترضى عنهم فقال رسول الله ( ﷺ ) :( وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم )، ورغبوا عني وتخلفوا عن الغزوة مع المسلمين.
فأنزل الله عز وجل هذه الآية فأرسل رسول الله ( ﷺ ) إليهم فأطلقهم وعذرهم فلما أطلقوا قالوا : يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك خذها فتصدق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا فقال رسول الله ( ﷺ ) :( ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً ) فأنزل الله : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم الآية.
وقال قوم : نزلت هذه الآية في أبي لبابة خاصة واختلفوا في ذنبه الذي تاب منه فقال مجاهد : نزلت في أبي لبابة حين قال لبني قريظة : إن نزلتم على حكمه فهو الذبح وأشار إلى حلقه فندم على ذلك وربط نفسه بسارية.
وقال : والله لا أحل نفسي ولا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليّ فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاماً ولا شراباً حتى خر مغشياً عليه، فإنزل الله هذه الآية فقيل له قد تيب عليك فقال : والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله ( ﷺ ) هو الذي يحلني فجاء رسول الله ( ﷺ ) فحله بيده فقال أبو لبابة : يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله ( ﷺ ) فقال يجزيك الثلث يا أبا لبابة.
قالوا جميعاً فأخذ رسول الله ( ﷺ ) ثلث أموالهم وترك لهم الثلثين لأن الله سبحانه وتعالى قال : خذ من أموالهم ولم يقل خذ أموالهم.
لأن لفظة ( من ) تقتضي التبعيض.
وقال الحسن وقتادة : وهؤلاء سوى الثلاثة الذين تخلفوا وسيأتي خبرهم.
أما تفسير الآية : فقوله تعالى : وآخرون اعترفوا بذنوبهم قال أهل المعاني : الاعتراف عبارة عن الإقرار بالشيء ومعناه أنهم أقروا بذنبهم وفيه دقيقة وهي أنهم لم يعتذروا عن تخلفهم بأعذار باطلة كغيرهم من المنافقين ولكن اعترفوا على أنفسهم بذنوبهم وندموا على ما فعلوا.
فإن قلت : الاعتراف بالذنب هل يكون توبة أم لا ؟
قلت : مجرد الاعتراف بالذنب لا يكون توبة فإذا اقترن الاعتراف بالندم على الماضي من الذنب والعزم على تركه في المستقبل يكون ذلك الاعتراف والندم توبة.
وقوله سبحانه وتعالى :( خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ( قيل : أراد بالعمل الصالح إقرارهم بالذنب وتوبتهم منه والعمل السيئ هو تخلفهم عن الجهاد مع رسول الله ( ﷺ ).
وقيل : العمل الصالح هو خروجهم مع رسول الله ( ﷺ ) إلى سائر الغزوات والسيئ هو تخلفهم عنه في غزوة تبوك.
وقيل : إن العمل الصالح يعم جميع أعمال البر والطاعة والسيئ ما كان ضده فعلى هذا تكون الآية في حق جميع المسلمين والحمل على العموم أولى وإن كان السبب مخصوصاً بمن تخلف عن رسول الله ( ﷺ ) في غزوة تبوك.
وروى الطبري عن أبي عثمان قال ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله وآخرون اعترفوا بذنوبهم.
فإن قلت قد جعل كل واحد من العمل الصالح والسيئ مخلوطاً فما المخلوط به.
قلت : إن الخلط عبارة عن الجمع المطلق فأما قولك خلطته فإنما يحسن في الموضع الذي يمتزج كل واحد من الخليطين بالآخر ويتغير به عن صفته الأصلية كقولك خلطت الماء باللبن وخلطت الماء واللبن فتنوب الواو عن الباء فيكون معنى الآية على هذا خلطوا عملاً صالحاً بآخر ذكره غالب المفسرين وأنكره الإمام فخر الدين الرازي.
وقال : اللائق بهذا الموضع الجمع المطلق لأن العمل الصالح والعمل السيئ إذا حصلا معاً بقي كل واحد منهما


الصفحة التالية
Icon