صفحة رقم ١٨٢
والمراد بالناس هنا : كفار مكة، وذلك أن الله سبحانه وتعالى حبس عنهم المطر سبع سنين حتى هلكوا من الجوع والقحط، ثم إن الله سبحانه وتعالى رحمهم، فأنزل عليهم المطر الكثير حتى أخصبت البلاد وعاش الناس بعد ذلك الضر فلم يتعظوا بذلك بل رجعوا إلى الفساد والكفر والمكر وهو قوله سبحانه وتعالى :( إذا لهم مكر في آياتنا ( قال مجاهد : أي تكذيب واستهزاء وقال مقاتل وابن حيان : لا يقولون هذا رزق الله إنما يقولون سقينا بنوء كذا وكذا.
ويدل على صحة هذا القول ما روي عن زيد بن خالد الجهني قال : صلى بنا رسول الله ( ﷺ ) صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف، أقبل على الناس فقال :( هل تدرون ماذا قال ربكم ) ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : قال ( أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بين مؤمن بالكواكب ) أخرجاه في الصحيحين.
قوله : على أثر سماء كانت من الليل أي مطر كان قد وقع في الليل وسمي المطر سماء لأنه يقطر من السماء.
والأنواء عند العرب : هي منازل القمر إذا طلع نجم سقط نظيره وكانوا يعتقدون في الجاهلية أنه لا بد عند ذلك من وجود مطر أو ريح كما يزعم المنجمون أيضاً فمن العرب من يجعل ذلك التأثير للطالع لأنه ناء أي ظهر وطلع ومنهم من ينسبه للغارب فنفى النبي عليه السلام صحة ذلك ونهى عنه وكفَّر معتقده إذا اعتقد أن النجم فاعل ذلك التأثير وأما من يجعله دليلاً، فهو جاهل بمعنى الدلالة.
وأما من أسند ذلك إلى العادة التي يجوز انخرامها فقد كرهه قوم وحرمه قوم ومنهم من تأول الكفر بكفر نعمة الله والله أعلم وسمى تكذيبهم بآيات الله مكراً لأن المكر عبارة عن صرف الشيء عن وجهه الظاهر بنوع من الحيلة وكان كفار مكة يحتالون في دفع آيات الله بكل ما يقدرون عليه من المفاسد :( قل الله أسرع مكراً ( أي : قل لهم يا محمد الله أعجل عقوبة وأشد أخذاً وأقدر على الجزاء وإن عذابه في هلاكهم أسرع إليكم مما يأتي منكم في دفع الحق ولما قابلوا نعمة الله بالمكر، قابل مكروهم بمكر أشد منه وهو أمهلهم إلى يوم القيامة ) إن رسلنا يكتبون ما تمكرون ( يعني الحفظة الكرام الكاتبين يكتبون ويحفظون عليهم الأعمال القبيحة السيئة إلى يوم القيامة حتى يفتضحوا بها ويجزون على مكرهم.
يونس :( ٢٢ - ٢٣ ) هو الذي يسيركم...
" هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون " ( قوله تعالى :( هو الذي يسيركم في البر والبحر ( يعني : هو الله الذي يسيركم يعني يحملكم في البر على ظهور الدواب وفي البحر على الفلك.
وقيل : معناه هو الله الهادي لكم في السير في البر والبحر طلباً للمعاش أو هو المهيء لكم أسباب السير في البر والبحر ) حتى إذا كنتم في الفلك ( يعني : السفن.
ولفظة الفلك : تطلق على الواحد والجمع وتقديراهما مختلفان فإن أريد بهما الواحد كان كبناء قفل، وإن أريد بها الجمع كان كبناء أسد والمراد بها هنا الجمع لقوله تعالى :( وجرين بهم ( يعني : وجرت السفن بركابها.
فإن قلت : ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة ؟ قلت : قال صاحب الكشاف : المقصود منه المبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم مزيد الإنكار والتقبيح وقال غيره إن مخاطبة الله لعباده على لسان نبيه ( ﷺ ) بمنزلة الخبر عن الغائب وكل من أقام الغائب مقام المخاطب حسن منه أن يرده إلى الغائب.
وقيل : إن الالتفات في الكلام من الغيبة إلى الحضور وبالعكس من فصيح كلام العرب ) بريح طيبة ( يعني وجرت السفن بريح طيبة ساكنة ) وفرحوا بها ( يعني وفرح ركبان تلك الفلك بتلك الريح الطيبة، لأن الإنسان إذا ركب السفينة ووجد الريح الطيبة الموافقة للمقصود


الصفحة التالية
Icon