صفحة رقم ١٩٩
ما جهلوا من أمري ما كنت لأجهل عليهم إن هم تابوا وعبدوا آلهتي فقال عظماء المدينة ما أنت بحقيق أن ترحم قوماً فجرة مردة عصاة، قد كنت أجلت لهم أجلاً ولو شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل ولكنهم لم يتوبوا، فلما قالوا ذلك غضب غضباً شديداً ثم أرسل إلى آبائهم فأتى بهم فقال : أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني، فقالوا : أما نحن لم نعصك فلم تقتلنا بقوم مردة إنهم ذهبوا بأموالنا وأهلكوها في أسواق المدينة، ثم انطلقوا إلى جبل يدعى ينجلوس فلما قالوا له ذلك خلى سبيلهم، وجعل ما يدري ما يصنع بالفتية فألقى الله سبحانه وتعالى في نفسه أن يأمر بسد باب الكهف عليهم وأراد الله عز وجل أن يكرمهم بذلك ويجعلهم آية لأمة تستخلف من بعدهم، وأن يبين لهم أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور.
فأمر دقيانوس بالكهف فسد عليهم وقال دعوهم كما هم في كهفهم يموتون جوعاً وعطشاً ويكون كهفهم الذي اختاروه قبراً لهم، وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم وقد توفى الله عز وجل أرواحهم وفاة نوم وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف قد غشيه ما غشيهم يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال.
ثم إن رجلين مؤمنين من بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما، اسم أحدهما بيدروس واسم الآخر روناس اهتما أن يكتبا شأن هؤلاء الفتية، وأسمائهم وأنسابهم وأخبارهم في لوحين من رصاص ويجعلاهما في تابوت من نحاس ويجعلا التابوت في البنيان، وقالا : لعل الله أن يظهر على هؤلاء الفتية قوماً مؤمنين قبل يوم القيامة فيعلم من فتح عليهم خبرهم حين يقرأ الكتاب ففعلا ذلك وبنيا عليه وبقي دقيانوس ما بقي ثم مات هو وقومه، وقرون بعده كثيرة وخلفت الملوك بعد الملوك وقال عبيد بن عمير : كان أصحاب الكهف فتياناً مطوقين مسورين ذوي ذوائب فخرجوا في عيد لهم عظيم في زي وموكب وأخرجوا معهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها وكان معهم كلب صيد لهم، وكان أحدهم وزير الملك فقذف الله سبحانه وتعالى الإيمان في قلوبهم فآمنوا وأخفى كل واحد إيمانه وقال في نفسه أخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لئلا يصيبني عقاب بجرمهم، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة فجلس فيه ثم خرج آخر فرآه جالساً وحده فرجا أن يكون على مثل أمره وجلس إليه من غير أن يظهره على أمره ثم خرج آخر فخرجوا جميعاً فاجتمعوا فقال بعضهم لبعض ما جمعكم وكل واحد يكتم إيمانه من صاحبه مخافة على نفسه، ثم قالوا ليخرج كل فتيين فيخلوا ويفشي كل واحد سره إلى صاحبه ففعلوا ذلك فإذا هم جميعاً على الإيمان وإذا الكهف في جبل عظيم قريب منهم فقال بعضهم لبعض فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته.
فدخلوا الكهف ومعهم كلب صيد فناموا ثلاثمائة سنين وازداد تسعاً، وفقدهم قومهم وطلبوهم فعمى الله عليه آثارهم وكهفهم فكتبوا أسمائهم وأنسابهم في لوح فلان وفلان وفلان أبناء ملوكنا فقدناهم في شهر كذا من سنة كذا في مملكة فلان ابن فلان الملك ووضعوا اللوح في خزانة الملك وقالوا ليكون لهؤلاء شأن وما ذلك الملك، وجاء قرن بعد قرن.
قال محمد بن إسحاق : ثم ملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له بيدروس فلما ملك بقي ملكه ثماني وستين سنة، فتحزب الناس في ملكه فكانوا أحزاباً منهم من يؤمن بالله ويعلم أن الساعة حق، ومنهم من يكذب بها فكبر ذلك على الملك الصالح وتضرع إلى الله وحزن حزناً شديداً لما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ويقولون لا حياة إلا حياة الدنيا وإنما تبعث الأرواح دون الأجساد.
وجعل بيدروس الملك يرسل إلى من يظن فيهم خيراً وأنهم أئمة في الخلق فلم يقبلوا منه وجعلوا