صفحة رقم ٢٨٦
وإن قوماً أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة من الدنيا مكثرين منها فكانت معيشتهم وذلك أنهم يرون أن الله ليس بمخلف لهم فاشتدت عليهم معايشهم من سوء ظنهم بالله تعالى.
وقيل يسلب القناعة حتى لا يشبع ) ونحشره يوم القيامة أعمى ( قال ابن عباس أعمى البصر وقيل أعمى عن الحجة ) قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً ( يعني بصيراً العين أو بصير بالحجة ) قال كذلك ( يعني كما ) أتتك آياتنا فنسيتها ( يعني فطردتها وأعرضت عنها ) وكذلك اليوم تنسى ( يعني تترك في النار وقيل نسوا من الخير والرحمة ولم ينسوا من العذاب ) وكذلك نجزي من أسرف ( يعني كما جزينا من أعرض عن القرآن كذلك نجزي من أسرف أي أشرك ) ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد ( يعني مما يعذبهم الله به في الدنيا والقبر ) وأبقى ( يعني وأدوم قوله تعالى :( أفلم يهد لهم ( يعني أفلم يبين القرآن لكفار مكة ) كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم ( يعني في ديارهم ومنازلهم إذ سافروا وذلك أن قريشاً كانوا يسافرون إلى الشام فيرون ديار المهلكين من أصحاب الحجر وهم ثمود وقريات قوم لوط ) إن في ذلك لآيات لأولي النهى ( أي لذوي العقول ) ولولا كلمة سبقت من ربك ( أي ولولا حكم سبق بتأخير العذاب عنهم ) لكان لزاماً وأجل مسمى ( تقديره ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى وهو القيامة لكان العذاب لازماً لهم في الدنيا كما لزم القرون الماضية الكافرة.
( طه :( ١٢٢ ) ثم اجتباه ربه...
" ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى " ( ) فوسوس إليه الشيطان ( أي أنهى إليه الوسوسة فأسر إليه ثم بين تلك الوسوسة ما هي فقال ) قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد ( أي على الشجرة التي إن أكلت منها بقيت مخلداً ) وملك لا يبلى ( أي لا يبيد ولا يفنى رغبة في دوام الراحة، فكان الشيء الذي رغب الله فيه آدم رغبة إبليس فيه، إلا أن الله تعالى وقف ذلك على الاحتراز عن تلك الشجرة وإبليس وقفه على الإقدام عليها وآدم مع كمال علمه بأن الله تعالى هو خالقه وربه ومولاه وناصره، وإبليس هو عدوه أعرض عن قول الله تعالى ولم يرد المخالفة ومن تأمل هذا السر عرف أنه لا دفع لقضاء الله ولا مانع منه.
وقوله تعالى ) فأكلا منها ( يعني أكل آدم وحواء من الشجرة ) فبدت لهما سوءاتهما ( أي عريا من الثياب التي كانت عليهما حتى بدت فروجهما وظهرت عوراتهما ) وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ( أي يلزقان بسوءاتهما من ورق التين ) وعصى آدم ربه ( أي بأكل الشجرة ) فغوى ( أي فعل ما لم يكن له فعله وقيل أخطأ طريق الحق وضل حيث طلب الخلد بأكل ما نهي عنه فخاب ولم ينل مراده وصار من العز إلى الذل ومن الراحة إلى التعب.
قال ابن قتيبة : يجوز أن يقال عصى آدم ولايجوز أن يقال آدم عاص، لأنه إنما يقال لمن اعتاد فعل المعصية كالرجل يخيط ثوبه يقال خاط ثوبه ولا يقال هو خياط حتى يعاود ذلك مراراً ويعتاده.
( ق ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه سلم ( احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا أخرجتنا من الجنة فقال له آدم أنت يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده أفتلومني على أمر قدره الله تعالى علي قبل أن يخلقني بأربعين عاماً فحج آدم موسى ).
وفي رواية لمسلم ( قال آدم بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق قال موسى بأربعين سنة قال فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى.
قال له نعم قال فهل تلومني على أن عملت عملاً كتب الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحج آدم موسى ).
( الكلام على معنى الحديث وشرحه )
قوله احتج آدم وموسى : المجادلة والمخاصمة يقال حاججت فلاناً فحججته أي جادلته فغلبته.
قال أبو سليمان الخطابي : قد يحسب كثير من الناس أن معنى القدر والقضاء من الله تعالى على معنى الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدره، ويتوهم أن قوله فحج آدم وموسى من هذا الوجه وليس كذلك.
وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله بما يكون من أفعال العباد وإكسابهم وصدورها عن تقدير منه وخلق لها خيرها وشرها.
والقدر اسم لما صدر مقدراً عن فعل القادر والقضاء في هذا معناه الخلق وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فهم أفعالهم وأكسابهم ومباشرتهم الأمور وملابستهم إياها عن قصد وتعمد وتقدم إرادة واختبار.
فالحجة إنما تلزمهم بها واللائمة تلحقهم عليها وجماع القول في هذا أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء.
فمن رام الفصل بينهما فقد رام هذا البناء ونقضه وإنما موضع الحجة لآدم على موسى أن الله تعالى كان قد علم من آدم أن يتناول الشجرة ويأكل منها، فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه وأن يبطله بعد ذلك.
وإنما كان تناوله الشجرة سبباً لنزوله إلى الأرض التي خلق لها وإنما أدلى آدم بالحجة على هذا المعنى ودفع لائمة موسى عن نفسه ولذلك قال أتلومني على أمر الله علي من قبل أن يخلقني.
( فصل : في بيان عصمة الأنبياء وما قيل في ذلك )
قال الإمام فخر الدين الرازي : اختلف الناس في عصمة الأنبياء وضبط القول فيها يرجع إلى أقسام أربعة، أحدهما : ما يقع في باب الإعتقاد وهو اعتقاد الكفر والضلال فإن ذلك غير جائز عليهم.
والثاني : ما يتعلق بالتبليغ فقد أجمعت الأمة على كونهم معصومين عن الكذب مواظبين على التبليغ والتحريض.
وإلا لارتفع الوثوق بالأداء واتفقوا على أن ذلك لا يجوز وقوعه منهم عمداً ولا سهواً ومن الناس من جوز ذلك سهواً قالوا لأن الاحتراز عنه غير ممكن.
الثالث : ما يتعلق بالفتيا فأجمعوا على أنه لا يجوز خطؤهم فيها على سبيل العمد وأجازه لبعضهم على سبيل السهو.
الرابع : ما يقع في أفعالهم فقد اختلفت الأمة فيه على خمسة أقوال.
أحدها : قول من جوز عليهم الكبائر.
الثاني : قول من منع من الكبائر وجوز الصغائر على جهة العمد وهو قول أكثر المعتزلة.
الثالث : لا يجوز أن يأتوا بصغيرة ولا كبيرة البتة بل على جهة التأويل وهو قول الجبائي.
الرابع : أنه لا يقع منهم الذنب إلا على جهة السهو والخطأ.
الخامس : أنه لا يقع منهم لا كبيرة ولا صغيرة لا على سبيل العمد ولا على سبيل السهو ولا على سبيل التأويل، وهو قول الشيعة.
واختلفت الناس في وقت العصمة على ثلاثة أقوال : أحدها : قول من ذهب إلى أنهم معصومون من حين وقت الولادة وهو قول الشيعة.
الثاني : قول من ذهب إلى عصمتهم من وقت بلوغهم وهو قول أكثر المعتزلة.
الثالث قول من ذهب إلى أن ذلك لا يجوز منهم بعد النبوة وهو قول أكثر أصحابنا وأبي الهزيل وأبي علي من المعتزلة.
طه :( ١٢٣ - ١٢٩ ) قال اهبطا منها...
" قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى " ( ) فوسوس إليه الشيطان ( أي أنهى إليه الوسوسة فأسر إليه ثم بين تلك الوسوسة ما هي فقال ) قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد ( أي على الشجرة التي إن أكلت منها بقيت مخلداً ) وملك لا يبلى ( أي لا يبيد ولا يفنى رغبة في دوام الراحة، فكان الشيء الذي رغب الله فيه آدم رغبة إبليس فيه، إلا أن الله تعالى وقف ذلك على الاحتراز عن تلك الشجرة وإبليس وقفه على الإقدام عليها وآدم مع كمال علمه بأن الله تعالى هو خالقه وربه ومولاه وناصره، وإبليس هو عدوه أعرض عن قول الله تعالى ولم يرد المخالفة ومن تأمل هذا السر عرف أنه لا دفع لقضاء الله ولا مانع منه.
وقوله تعالى ) فأكلا منها ( يعني أكل آدم وحواء من الشجرة ) فبدت لهما سوءاتهما ( أي عريا من الثياب التي كانت عليهما حتى بدت فروجهما وظهرت عوراتهما ) وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ( أي يلزقان بسوءاتهما من ورق التين ) وعصى آدم ربه ( أي بأكل الشجرة ) فغوى ( أي فعل ما لم يكن له فعله وقيل أخطأ طريق الحق وضل حيث طلب الخلد بأكل ما نهي عنه فخاب ولم ينل مراده وصار من العز إلى الذل ومن الراحة إلى التعب.
قال ابن قتيبة : يجوز أن يقال عصى آدم ولايجوز أن يقال آدم عاص، لأنه إنما يقال لمن اعتاد فعل المعصية كالرجل يخيط ثوبه يقال خاط ثوبه ولا يقال هو خياط حتى يعاود ذلك مراراً ويعتاده.
( ق ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه سلم ( احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا أخرجتنا من الجنة فقال له آدم أنت يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده أفتلومني على أمر قدره الله تعالى علي قبل أن يخلقني بأربعين عاماً فحج آدم موسى ).
وفي رواية لمسلم ( قال آدم بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق قال موسى بأربعين سنة قال فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى.
قال له نعم قال فهل تلومني على أن عملت عملاً كتب الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحج آدم موسى ).
( الكلام على معنى الحديث وشرحه )
قوله احتج آدم وموسى : المجادلة والمخاصمة يقال حاججت فلاناً فحججته أي جادلته فغلبته.
قال أبو سليمان الخطابي : قد يحسب كثير من الناس أن معنى القدر والقضاء من الله تعالى على معنى الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدره، ويتوهم أن قوله فحج آدم وموسى من هذا الوجه وليس كذلك.
وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله بما يكون من أفعال العباد وإكسابهم وصدورها عن تقدير منه وخلق لها خيرها وشرها.
والقدر اسم لما صدر مقدراً عن فعل القادر والقضاء في هذا معناه الخلق وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فهم أفعالهم وأكسابهم ومباشرتهم الأمور وملابستهم إياها عن قصد وتعمد وتقدم إرادة واختبار.
فالحجة إنما تلزمهم بها واللائمة تلحقهم عليها وجماع القول في هذا أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء.
فمن رام الفصل بينهما فقد رام هذا البناء ونقضه وإنما موضع الحجة لآدم على موسى أن الله تعالى كان قد علم من آدم أن يتناول الشجرة ويأكل منها، فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه وأن يبطله بعد ذلك.
وإنما كان تناوله الشجرة سبباً لنزوله إلى الأرض التي خلق لها وإنما أدلى آدم بالحجة على هذا المعنى ودفع لائمة موسى عن نفسه ولذلك قال أتلومني على أمر الله علي من قبل أن يخلقني.
( فصل : في بيان عصمة الأنبياء وما قيل في ذلك )
قال الإمام فخر الدين الرازي : اختلف الناس في عصمة الأنبياء وضبط القول فيها يرجع إلى أقسام أربعة، أحدهما : ما يقع في باب الإعتقاد وهو اعتقاد لكفر والضلال فإن ذلك غير جائز عليهم.
والثاني : ما يتعلق بالتبليغ فقد أجمعت الأمة على كونهم معصومين عن الكذب مواظبين على التبليغ والتحريض.
وإلا لارتفع الوثوق بالأداء واتفقوا على أن ذلك لا يجوز وقوعه منهم عمداً ولا سهواً ومن الناس من جوز ذلك سهواً قالوا لأن الاحتراز عنه غير ممكن.
الثالث : ما يتعلق بالفتيا فأجمعوا على أنه لا يجوز خطؤهم فيها على سبيل العمد وأجازه لبعضهم على سبيل السهو.
الرابع : ما يقع في أفعالهم فقد اختلفت الأمة فيه


الصفحة التالية
Icon