صفحة رقم ١٧٣
أول ما نزل من القرآن على الإطلاق ) اقرأ باسم ربك الذي خلق (، كما صرح به في حديث عائشة، وقول من قال إن سورة المدثر أول ما نزل من القرآن على الإطلاق ضعيف لا يعتد به، وإنما كان نزولها بعد فترة الوحي كما صرح به في رواية الزّهري عن أبي سلمة عن جابر، ويدل عليه أيضاً قوله في الحديث وهو يحدث عن فترة الوحي إلى أن قال وأنزل الله تعالى يا أيها المدثر ويدل عليه أيضاً قوله ) فإذا الملك الذي جاءني بحراء ثم قال وأنزل الله تعالى : يا أيها المدثر ( وأيضاً قوله ) ثم حمي الوحي بعد وتتابع ( فالصواب إن أول ما نزل من القرآن على رسول الله ( ﷺ ) سورة ) اقرأ باسم ربك الذي خلق ( " وإن أول ما نزل بعد فترة الوحي سورة المدثر فحصل بهذا الذي بيناه الجمع بين الحديثين، والله أعلم قوله ) فإذا هو قاعد على عرش بين السماء والأرض ( يريد به السرير الذي يجلس عليه وقوله يحدث عن فترة الوحي، أي عن احتباسه وعدم تتابعه، وتواليه في النزول قوله ) فجئثت منه ( روى بجيم مضمومة ثم همزة مكسورة ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم تاء الضّمير وروى بثاءين مثلثتين بعد الجيم، ومعناه فرعبت منه وفزعت.
وقوله ) وحمي الوحي بعد وتتابع ( أي كثر نزوله، وازداد بعد فترته من قولهم حميت الشّمس والنّار إذا ازداد حرهما، وقوله وصبوا علي ماء فيه أنه ينبغي لمن فزع أن يصب عليه ماء حتى يسكن فزعه والله أعلم.
وأما التّفسير فقوله عز وجل : يا أيها المدثر أصله المتدثر وهو الذي يتدثر في ثيابه ليستدفىء بها، وأجمعوا على أنه رسول الله ( ﷺ ) وإنما سماه مدثراً لقوله ( ﷺ ) دثروني، وقيل معناه يا أيّها المدثر بدثار النّبوة والرّسالة من قولهم ألبسه الله لباس التقوى، فجعل النّبوة كالدثار واللباس، مجازاً ) قم فأنذر ( أي حذرهم من عذاب ربك إن لم يؤمنوا والمعنى قم من مضجعك ودثارك، وقيل قم قيام عز واشتغل بالإنذار الذي تحملته ) وربك فكبر ( أي عظم ربك عما يقوله عبدة الأوثان ) وثيابك فطهر ( فيه أربعة أوجه : أحدها أن ينزل لفظ الثّياب والتّطهير على الحقيقة، والثاني أن ينزل لفظ الثياب على الحقيقة والتطهير على المجاز والثالث أن ينزل لفظ الثّياب على المجاز، والتّطهير على الحقيقة والرابع أن ينزل لفظ الثّياب والتّطهير على المجاز.
أما الوجه الأول : فمعناه وثيابك فطهر من النّجاسات والمستقذرات، وذلك أن المشركين لم يكونوا يحترزون عنها فأمر ( ﷺ ) بصون ثيابه من النجاسات، وغيرها خلافاً للمشركين.
الوجه الثاني : معناه وثيابك فقصر وذلك لأن المشركين كانوا يطولون ثيابهم ويجرون أذيالهم على النّجاسات وفي الثّوب الطّويل من الخيلاء والكبر والفخر ما ليس في الثوب القصير فنهى عن تطويل الثوب وأمر بتقصيره لذلك، وقيل معناه وثيابك فطهر عن أن تكون مغصوبة أو محرمة بل تكون من وجه حلال وكسب طيب.
الوجه الثالث : معناه حمل الثوب على النفس قال عنترة :
وشككت بالرمح الأصم ثيابه
ليس الكريم على القنا بمحرم
يريد نفسه والمعنى ونفسك فطهر عن الذّنوب والرّيب وغيره وكنى بالثياب عن الجسد لأنها تشتمل عليه.
الوجه الرابع وهو حمل الثياب والتطهير على اغلمجاز فقيل معناه وقلبك فطهر عن الصفات المذمومة وقيل معناه وخلقك فحسن وسئل ابن عباس عن قوله وثيابك فطهر فقال لا تلبسها على معصية ولا غدر أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي


الصفحة التالية
Icon