﴿ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ [آل عمران : ١٤٣] أي رأيتموه معاينين مشاهدين له حين قتل إخوانكم بين أيديكم وشارفتم أن تقتلوا، وهذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت وعلى ما تسببوا له من خروج رسول الله صلى الله عليه وسلّم بإلحاحهم عليه، ثم انهزامهم عنه.
وإنما تمنوا الشهادة لينالوا كرامة الشهداء من غير قصد إلى ما يتضمنه من غلبة الكفار كمن شرب الدواء من طبيب نصراني فإن قصده حصول الشفاء ولا يخطر بباله أن فيه جر منفعة إلى عدو الله وتنفيقاً لصناعته.
لما رمى ابن قميئة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكسر رباعيته أقبل يريد قتله فذب عنه مصعب بن عمير ـــــ وهو صاحب الراية ـــــ حتى قتله ابن قميئة وهو يرى أنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : قتلت محمداً وخرج صارخ ـــــ قيل هو الشيطان ـــــ ألا إن محمداً قد قتل.
ففشا في الناس خبر قتله فانكفؤوا وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يدعو : إليّ عباد الله حتى انحازت
٢٧٧
إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هربهم فقالوا : يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا خبر قتلك فولينا مدبرين فنزل ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ ﴾ [آل عمران : ١٤٤] مضت ﴿ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ﴾ [آل عمران : ١٤٤] فسيخلو كما خلوا، وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه، لأن المقصود من بعثة الرسل تبليغ الرسالة وإلزام الحجة لا وجوده بين أظهر قومه ﴿ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَـابِكُمْ ﴾ [آل عمران : ١٤٤] الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة التي قبلها على معنى التسبيب، والهمزة لأنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سبباً لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه بموت أو قتل مع علمهم أن خلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكاً به يجب أن يجعل سبباً للتمسك بدين محمد عليه السلام لا للانقلاب عنه، والانقلاب على العقبين مجاز عن الارتداد أو عن الإنهزام ﴿ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شيئا ﴾ [آل عمران : ١٤٤] وإنما ضر نفسه ﴿ وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّـاكِرِينَ ﴾ [آل عمران : ١٤٤] الذين لم ينقلبوا، وسماهم شاكرين لأنهم شكروا نعمة الإسلام فيما فعلوا.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٦٩
﴿ وَمَا كَانَ ﴾ [التوبة : ١١٤] وما جاز ﴿ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران : ١٤٥] أي بعلمه أو بأن يأذن ملك الموت في قبض روحه، والمعنى أن موت الأنفس محال أن يكون إلا بمشيئة الله، وفيه تحريض على الجهاد، وتشجيع على لقاء العدو، وإعلام بأن الحذر لا ينفع، وأن أحداً لا يموت قبل بلوغ أجله وإن خاض المهالك واقتحم المعارك ﴿ كِتَـابًا ﴾ مصدر مؤكد لأن المعنى كتب الموت كتاباً ﴿ مُّؤَجَّلا ﴾ مؤقتاً له أجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخر ﴿ وَمَن يُرِدِ ﴾ [المائدة : ٤١] بقتاله ﴿ ثَوَابَ الدُّنْيَا ﴾ [النساء : ١٣٤] أي الغنيمة وهو تعريض بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد ﴿ نُؤْتِهِ مِنْهَا ﴾ [آل عمران : ١٤٥] من ثوابها ﴿ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاخِرَةِ ﴾ [آل عمران : ١٤٥] أي إعلاء كلمة الله والدرجة في الآخر ﴿ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّـاكِرِينَ ﴾ [آل عمران : ١٤٥] وسنجزي الجزاء المبهم الذين شكروا نعمة الله فلم يشغلهم شيء عن الجهاد.
٢٧٨