ولما لم يؤمنوا نزل ﴿ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ ءَامِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا ﴾ يعني القرآن ﴿ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم ﴾ [النساء : ٤٧] يعني التوراة ﴿ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا ﴾ [النساء : ٤٧] أي نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم ﴿ فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ ﴾ [النساء : ٤٧] فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الأقفاء مطموسة مثلها.
والفاء للتسبيب، وإن جعلتها للتعقيب على أنهم توعدوا بعقابين أحدهما عقيب الآخر، ردها على أدبارها بعد طمسها فالمعنى : أن نطمس وجوهاً فننكس الوجوه إلى خلف والأقفاء إلى قدام.
وقيل : المراد بالطمس القلب والتغيير كما
٣٣٥
طمس أموال القبط فقلبها حجارة، وبالوجوه رؤوسهم ووجهاؤهم أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم ونكسوهم صغارهم وإدبارهم ﴿ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَـابَ السَّبْتِ ﴾ [النساء : ٤٧] أي نخزيهم بالمسخ كما مسخنا أصحاب السبت.
والضمير يرجع إلى الوجوه إن أريد الوجهاء، أو إلى الذين أوتوا الكتاب على طريقة الالتفات.
والوعيد كان معلقاً بأن لا يؤمن كلهم وقد آمن بعضهم فإن ابن سلام قد سمع الآية قافلاً من الشام فأتى النبي صلى الله عليه وسلّم مسلماً قبل أن يأتي أهله وقال : ما كنت أرى أن أصل إلى أهلي قبل أن يطمس الله وجهي.
أو أن الله تعالى أوعدهم بأحد الأمرين : بطمس الوجوه أو بلعنهم، فإن كان الطمس تبدل أحوال رؤسائهم فقد كان أحد الأمرين، وإن كان غيره فقد حصل اللعن فإنهم ملعونون بكل لسان.
وقيل : هو منتظر في اليهود ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ ﴾ [الأحزاب : ٣٨] أي المأمور به وهو العذاب الذي أوعدوا به ﴿ مَفْعُولا ﴾ كائناً لا محالة فلا بد أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا.
﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ﴾ [النساء : ٤٨] إن مات عليه ﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ ﴾ [النساء : ٤٨] أي ما دون الشرك وإن كان كبيرة مع عدم التوبة، والحاصل أن الشرك مغفور عنه بالتوبة، وأن وعد غفران ما دونه لمن لم يتب أي لا يغفر لمن يشرك وهو مشرك ويغفر لمن يذنب وهو مذنب.
قال النبي عليه السلام من لقي الله تعالى لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ولم تضره خطيئته وتقييده بقوله
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٣٥
﴿ لِمَن يَشَآءُ ﴾ [الشورى : ٤٩] لا يخرجه عن عمومه كقوله :﴿ اللَّهُ لَطِيفُ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ ﴾ [الشورى : ١٩] (الشورى : ٩١).
قال علي رضي الله عنه : ما في القرآن آية أحب إليّ من هذه الآية.
وحمل المعتزلة على التائب باطل لأن الكفر مغفور عنه بالتوبة لقوله تعالى :﴿ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾ [الانفال : ٣٨] (الأنفال : ٨٣).
فما دونه أولى من أن يغفر بالتوبة.
والآية سيقت لبيان التفرقة بينهما وذا فيما ذكرنا ﴿ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾ كذب كذباً عظيماً استحق به عذاباً أليماً.
ونزل فيمن زكى نفسه من اليهود والنصارى حيث قالوا :﴿ نَحْنُ أَبْنَـاؤُا اللَّهِ وَأَحِبَّـاؤُهُ ﴾ [المائدة : ١٨] (المائدة : ٨١).
﴿ وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـارَى ﴾ [البقرة : ١١١] (البقرة : ١١١).
٣٣٦
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم ﴾ [النساء : ٤٩] ويدخل فيها كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى ﴿ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ ﴾ [النساء : ٤٩] إعلام بأن تزكية الله هي التي يعتد بها لا تزكية غيره لأنه هو العالم بمن هو أهل للتزكية ونحوه :﴿ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النجم : ٣٢] (النجم : ٢٣).
﴿ وَلا يُظْلَمُونَ ﴾ [مريم : ٦٠] أي الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكية أنفسهم حق جزائهم، أو من يشاء يثابون على زكائهم ولا ينقص من ثوابهم ﴿ فَتِيلا ﴾ قدر فتيل وهو ما يحدث بفتل الأصابع من الوسخ.
﴿ انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾ [النساء : ٥٠] في زعمهم أنهم عند الله أزكياءٌ ﴿ وَكَفَى بِهِ ﴾ [النساء : ٥٠] بزعمهم هذا ﴿ إِثْمًا مُّبِينًا ﴾ [النساء : ٥٠] من بين سائر آثامهم.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَـابِ ﴾ [آل عمران : ٢٣] يعني اليهود


الصفحة التالية
Icon