لأنها الهاء خفية والخفي قريب من الساكن، والياء بعدها.
والهدى مصدر على فعل كالبكى وهو الدلالة الموصلة إلى البغية بدليل وقوع الضلالة في مقابلته في قوله :﴿ أؤلئك الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَـالَةَ بِالْهُدَى ﴾ [البقرة : ١٦] (البقرة : ٦١) وإنما قيل هدى ﴿ لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ والمتقون مهتدون لأنه كقولك للعزيز المكرم :" أعزك الله وأكرمك "، تريد طلب الزيادة على ما هو ثابت فيه واستدامته كقوله :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٩
﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة : ٦]، أو لأنه سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متقين كقوله عليه السلام " من قتل قتيلاً فله سلبه " وقول ابن عباس رضي الله عنهما : إذا أراد أحدكم الحج فليعجل فإنه يمرض المريض، فسمى المشارف للقتل والمرض قتيلاً ومريضاً.
ولم يقل : هدى للضالين.
لأنهم فريقان فريق علم بقاءهم على الضلالة، وفريق علم أن مصيرهم إلى الهدى وهو هدى لهؤلاء فحسب، فلو جيء بالعبارة المفصحة عن ذلك لقيل هدى للصائرين إلى الهدى بعد الضلال فاختصر الكلام بإجرائه على الطريقة التي ذكرنا فقيل هدى للمتقين مع أن فيه تصديراً للسورة التي هي أولى الزهراوين وسنام القرآن بذكر أولياء الله.
والمتقى في اللغة إسم فاعل من قولهم : وقاه فاتقى، ففاؤها واو ولامها ياء، وإذا بنيت من ذلك افتعل قلبت الواو تاء وأدغمتها في التاء الأخرى فقلت اتقى.
والوقاية فرط الصيانة، وفي الشريعة من يقي نفسه تعاطى ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك.
ومحل هدى الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف، أو خبر مع لا ريب فيه لذلك، أو النصب على الحال من الهاء في فيه والذي هو أرسخ عرقاً في البلاغة أن يقال : إن قوله الم جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها، وذلك الكتاب جملة ثانية، ولا ريب فيه ثالثة، وهدى للمتقين رابعة.
وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف عطف وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها وهلم جراً إلى الثالثة والرابعة، بيان ذلك أنه نبه أولاً على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقريراً لجهة التحدي، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب فكان شهادة وتسجيلاً بكماله لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين،
٤٣
ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة.
وقيل لعالم : فيم لذتك؟ قال : في حجة تتبختر اتضاحاً وفي شبهة تتضاءل افتضاهاً.
ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله، وحقاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ثم لم تخل كل واحدة من الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق ونظمت هذا النظم الرشيق من نكتة ذات جزالة.
ففي الأولى الحذف والرمز إن المطلوب بألطف وجه، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة الحذف، ووضع المصدر الذي هو هدى موضع الوصف الذي هو " هاد " كأن نفسه هداية وإيراده منكراً ففيه إشعار بأنه هدى لا يكتنه كنهه.
والإيجاز في ذكر المتقين كما مر.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٩
﴿ الَّذِينَ ﴾ في موضع رفع أو نصب على المدح أي هم الذين يؤمنون أو أعني الذين يؤمنون، أو هو مبتدأ وخبره " أولئك على هدى "، أو جر على أنه صفة للمتقين، وهي صفة واردة بياناً وكشفاً للمتقين كقولك " زيد الفقيه " المحقق لاشتمالها على ما أسست عليه حال المتقين من الإيمان الذي هو أساس الحسنات، والصلاة والصدقة فهما العبادات البدنية والمالية وهما العيار على غيرهما، ألا ترى أن النبي عليه السلام سمى الصلاة عماد الدين، وجعل الفاصل بين الإسلام والكفر ترك الصلاة، وسمى الزكاة قنطرة الإسلام فكان من شأنهما استتباع سائر العبادات، ولذلك اختصر الكلام بأن استغنى عن عد الطاعات بذكر ما هو كالعنوان لها مع ما في ذلك من الإفصاح عن فضل هاتين العبادتين، أو صفة مسرودة مع المتقين تفيد غير فائدتها كقولك : زيد الفقيه المتكلم الطبيب، ويكون المراد بالمتقين الذين يجتنبون السيآت ﴿ يُؤْمِنُونَ ﴾ يصدقون وهو إفعال من الأمن وقولهم : آمنه أي صدقه وحقيقته
٤٤