أمنه التكذيب والمخالفة، وتعديته بالباء لتضمنه معنى أقر واعترف.
﴿ بِالْغَيْبِ ﴾ بما غاب عنهم مما أنبأهم به النبي عليه السلام من أمر البعث والنشور والحساب وغير ذلك، فهو بمعنى الغائب تسمية بالمصدر من قولك " غاب الشيء غيباً ".
هذا إن جعلته صلة للإيمان، وإن جعلته حالاً كان بمعنى الغيبة والخفاء أي يؤمنون غائبين عن المؤمن به وحقيقته متلبسين بالغيبة، والإيمان الصحيح أن يقر باللسان ويصدق بالجنان والعمل ليس بداخل في الإيمان.
﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ أي يؤدونها فعبر عن الأداء بالإقامة لأن القيام بعض أركانها كما عبر عنه بالقنوت وهو القيام وبالركوع والسجود والتسبيح لوجودها فيها، أو أريد بإقامة الصلاة تعديل أركانها من أقام العود إذا قومه، أو الدوام عليها والمحافظة من قامت السوق إذا نفقت لأنه إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجه إليه الرغبات، وإذا أضيعت كانت كالشيء الكاسد الذي لا يرغب فيه، والصلاة فعلة من صلى كالزكاة من زكى، وكتابتها بالواو على لفظ المفخم.
وحقيقة صلى حرك الصلوين أي الأليتين لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده.
وقيل للداعي مصل تشبيهاً له في تخشعه بالراكع والساجد ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ ﴾
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٩
أعطيناهم.
و " ما " بمعنى " الذي " ﴿ يُنفِقُونَ ﴾ يتصدقون.
أدخل " من " التبعيضية صيانة لهم عن التبذير المنهي عنه وقدم المفعول دلالة على كونه أهم والمراد به الزكاة لاقترانه بالصلاة التي هي أختها أو هي غيرها من النفقات في سبل الخير لمجيئه مطلقاً، وأنفق الشيء وأنفده أخوان كنفق الشيء ونفد، وكل ما جاء مما فاؤه نون وعينه فاء فدال على معنى الخروج والذهاب.
ودلت الآية على أن الأعمال ليست من الإيمان حيث عطف الصلاة والزكاة على الإيمان والعطف يتقضي المغايرة.
﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام : ٩٢] هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه من الذين آمنوا بكل وحي أنزل من عند الله وأيقنوا بالآخرة إيقاناً زال معه ما كانوا عليه من أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى وأن النار لن تمسهم إلا
٤٥
أياماً معدودات، ثم إن عطفتهم على الذين يؤمنون بالغيب دخلوا في جملة المتقين، وإن عطفتهم على المتقين لم يدخلوا فكأنه قيل : هدى للمتقين، وهدى للذين يؤمنون بما أنزل إليك، أو المراد به وصف الأولين ووسط العاطف كما يوسط بين الصفات في قولك : هو الشجاع والجواد، وقوله :
إلى الملك القرم وابن الهمام
وليث الكتيبة في المزدحم
والمعنى أنهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه ﴿ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ [النساء : ١٦٦] يعني القرآن المراد جميع القرآن لا القدر الذي سبق إنزاله وقت إيمانهم، لأنه الإيمان بالجميع واجب.
وإنما عبر عنه بلفظ الماضي وإن كان بعضه مترقباً تغليباً للموجود على ما لم يوجد، ولأنه إذا كان بعضه نازلاً وبعضه منتظر النزول جعل كأن كله قد نزل.
﴿ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ﴾ [النساء : ١٦٢] يعني سائرالكتب المنزلة على النبيين عليهم الصلاة والسلام ﴿ وَبِالاخِرَةِ ﴾ وهي تأنيث الآخر الذي هو ضد الأول وهي صفة والموصوف محذوف وهو الدار بدليل قوله :﴿ تِلْكَ الدَّارُ الاخِرَةُ ﴾ [القصص : ٨٣] (القصص : ٣٨) وهي من الصفات الغالبة وكذلك الدنيا.
وعن نافع أنه خففها بأن حذف الهمزة وألقى حركتها على اللام.
﴿ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ [البقرة : ٤] الإيقان إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه.
﴿ أؤلئك عَلَى هُدًى ﴾ [البقرة : ٥] الجملة في موضع الرفع إن كان " الذين يؤمنون بالغيب " مبتدأ وإلا فلا محمل لها، ويجوز أن يجري الموصول الأول على المتقين وأن يرتفع الثاني على الإبتداء وأولئك خبره، ويجعل اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضاً بأهل الكتاب الذين لا يؤمنون بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون أنهم ينالون الفلاح عند الله.
ومعنى الاستعلاء في " على هدى " مثل لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به بحيث شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه
٤٦


الصفحة التالية
Icon