المنافقين في الأرض أنهم كانوا يمايلون الكفار ويمالئونهم على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم وإغرائهم عليهم وذلك مما يؤدي إلى هيج الفتن بينهم.
﴿ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ [البقرة : ١١] بين المؤمنين والكافرين بالمداراة يعني أن صفة المصلحين خلصت لنا وتمحضت من غير شائبة قادح فيها من وجه من وجوه الفساد، لأن " إنما " لقصر الحكم على شيء أو لقصر الشيء على حكم كقولك " إنما ينطلق زيد وإنما زيد كاتب " و " ما " كافة لأنها تكفها عن العمل.
﴿ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـاكِن لا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة : ١٢] أنهم مفسدون فحذف المفعول للعمل به.
" ألا " مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي لإعطاء معنى التنبيه على تحقق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحققاً كقوله تعالى :﴿ أَلَيْسَ ذَالِكَ بِقَـادِرٍ ﴾ [القيامة : ٤٠] (القيامة : ٠٤)، ولكونها في هذا المنصب من التحقيق لا تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم، وقد رد الله ما ادعوه من الانتظام في جملة المصلحين أبلغ رد وأدله على سخط عظيم والمبالغة فيه من جهة الاستئناف، وما في " ألا " و " إن " من التأكيد وتعريف الخبر وتوسيط الفصل وقوله لا يشعرون.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٣
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا كَمَآ ءَامَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ ءَامَنَ السُّفَهَآءُ ﴾ [البقرة : ١٣] نصحوهم من وجهين : أحدهما تقبيح ما كانوا عليه لبعده عن الصواب وجره إلى الفساد، وثانيهما تبصيرهم الطريق الأسدّ من اتباع ذوي الأحلام، فكان من جوابهم أن سفهوهم لتمادي جهلهم، وفيه تسلية للعالم مما يلقى من الجهلة.
وإنما صح إسناد قيل إلى لا تفسدوا وآمنوا مع أن إسناد الفعل إلى الفعل لا يصح، لأنه إسناد إلى لفظ الفعل والممتنع إسناد الفعل إلى معنى الفعل فكأنه قيل : وإذا قيل لهم هذا القول ومنه زعموا مطية الكذب.
و " ما " في كما كافة في " ربما "، أو مصدرية كما في ﴿ بِمَا رَحُبَتْ ﴾ [التوبة : ٢٥] (التوبة : ٥٢) واللام في الناس للعهد أي كما آمن الرسول صلى الله عليه وسلّم ومن معه
٥٤
وهم ناس معهودون، أو عبد الله بن سلام وأشياعه أي كما آمن أصحابكم وإخوانكم، أو للجنس أي كما آمن الكاملون في الإنسانية، أو جعل المؤمنون كأنهم الناس على الحقيقة ومن عداهم كالبهائم، والكاف في كما في موضع النصب لأنه صفة مصدر محذوف أي إيماناً مثل إيمان الناس ومثله كما آمن السفهاء.
والاستفهام في أنؤمن للإنكار، في السفهاء مشار بها إلى الناس، وإنما سفهوهم وهم العقلاء المراجيح لأنهم لجهلهم اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق وأن ما عداه باطل، ومن ركب متن الباطل كان سفيهاً والسفه سخافة العقل وخفة الحلم.
﴿ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَـاكِن لا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة : ١٣] أنهم هم السفهاء.
وإنما ذكر هنا لا يعلمون وفيما تقدم لا يشعرون لأنه قد ذكر السفه وهوجهل فكان ذكر العلم معه أحسن طباقاً له، ولأن الإيمان يحتاج فيه إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر المعرفة، أما الفساد في الأرض فأمر مبني على العادات فهو كالمحسوس.
والسفهاء خبر " إن " و " هم " فصل أو مبتدأ والسفهاء خبرهم والجملة خبر " إن ".
﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا ﴾ [البقرة : ١٤] وقرأ أبو حنيفة رحمه الله " وإذا لاقوا " يقال لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه.
الآية الأولى في بيان مذهب المنافقين والترجمة عن نفاقهم، وهذه في بيان ما كانوا يعملون مع المؤمنين من الاستهزاء بهم ولقائهم بوجوه المصادقين وإيهامهم أنهم معهم.
﴿ وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَـاطِينِهِمْ ﴾ [
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٣
البقرة : ١٤] خلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه، وبإلى أبلغ لأن فيه دلالة الابتداء والانتهاء أي إذا خلوا من المؤمنين إلى شياطينهم، ويجوز أن يكون من خلا بمعنى مضى.
وشياطينهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم وهم اليهود.
وعن سيبويه أن نون الشياطين أصلية بدليل قولهم " تشيطن "، وعنه أنها زائدة واشتقاقه من " شطن " إذا بعد لبعده من الصلاح والخير، أو من شاط إذا بطل ومن أسمائه الباطل.
﴿ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ ﴾ [البقرة : ١٤] إنا مصاحبوكم وموافقوكم على دينكم.
وإنما خاطبوا
٥٥