المؤمنين بالجملة الفعلية وشياطينهم بالاسمية محققة بـ " إن " لأنهم في خطابهم مع المؤمنين في ادعاء حدوث الإيمان منهم لا في ادعاء أنهم أوحديون في الإيمان، إما لأن أنفسهم لا تساعدهم عليه إذ ليس لهم من عقائدهم باعث ومحرك، وإما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على لفظ التأكيد والمبالغة، وكيف يطمعون في رواجه وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار.
وأما خطابهم مع إخوانهم فقد كان عن رغبة وقد كان متقبلاً منهم رائجاً عنهم فكان مظنة للتحقيق ومئنة للتأكيد.
وقوله ﴿ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ ﴾ [البقرة : ١٤] تأكيد لقوله " إنا معكم " لأن معناه الثبات على اليهودية، وقوله إنما نحن مستهزئون رد للإسلام ودفع لهم منهم لأن المستهزىء بالشيء المستخف به منكر له ودافع لكونه معتداً به، ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته أو استنئاف كأنهم اعترضوا عليهم بقولهم حين قالوا إنا معكم إن كنتم معنا فلم توافقون المؤمنين فقالوا إنما نحن مستهزئون.
والاستهزاء السخرية والاستخفاف وأصل الباب الخفة من الهزء وهو القتل السريع، وهزأ يهزأ مات على المكان.
﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ﴾ أي يجازيهم على استهزائهم فسمى جزاء الاستهزاء باسمه كقوله تعالى :﴿ وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ [الشورى : ٤٠] (الشورى : ٠٤).
﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ﴾ [البقرة : ١٩٤] (البقرة : ٤٩١) فسمى جزاء السيئة سيئة وجزاء الاعتداء اعتداء وإن لم يكن الجزاء سيئة واعتداء، وهذا لأن الاستهزاء لا يجوز على الله تعالى من حيث الحقيقة لأنه من باب العبث وتعالى عنه.
قال الزجاج : هو الوجه المختار.
واستئناف قوله تعالى الله يستهزىء بهم من غير عطف في غاية الجزالة والفخامة، وفيه أن الله هو الذي يستهزىء بهم الاستهزاء الأبلغ الذي ليس استهزاؤهم إليه باستهزاء لما ينزل بهم من النكال والذل والهوان.
ولما كانت نكايات الله وبلاياه تنزل عليهم ساعة فساعة قيل الله يستهزىء بهم ولم يقل الله مستهزىء بهم ليكون طبقاً لقوله إنما نحن مستهزؤون
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٣
﴿ وَيَمُدُّهُمْ ﴾ أي يمهلهم عن الزجاج ﴿ فِي طُغْيَـانِهِمْ ﴾ [البقرة : ١٥] في غلوهم في كفرهم ﴿ يَعْمَهُونَ ﴾ حال أي يتحيرون ويترددون وهذه الآية حجة على المعتزلة في مسألة الأصلح.
٥٦
﴿ أُوالَـائِكَ ﴾ مبتدأ خبره.
﴿ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَـالَةَ بِالْهُدَى ﴾ [البقرة : ١٦] أي استبدلوها به واختاروها عليه.
وإنما قال اشتروا الضلالة بالهدى ولم يكونوا على هدى لأنها في قوم آمنوا ثم كفروا، أو في اليهود الذين كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلّم فلما جاءهم كفروا به، أو جعلوا لتمكنهم منه كأن الهدى قائم فيهم فتركوه بالضلالة، وفيه دليل على جواز البيع تعاطياً لأنهم لم يتلفظوا الشراء ولكن تركوا الهدى بالضلالة عن اختيارهم، وسمي ذلك شراء فصار دليلاً لنا على أن من أخذ شيئاً من غيره ترك عليه عوضه برضاه فقد اشتراه وإن لم يتكلم به.
والضلالة الجور عن القصد وفقد الاهتداء، يقال ضل منزله فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين.
﴿ فَمَا رَبِحَت تِّجَـارَتُهُمْ ﴾ [البقرة : ١٦] الربح الفضل على رأس المال، والتجارة صناعة التاجر وهو الذي يبيع ويشتري للربح، وإسناد الربح إلى التجارة من الإسناد المجازي، ومعناه فما ربحوا في تجارتهم إذ التجارة لا تربح، ولما وقع شراء الضلالة بالهدى مجازاً أتبعه ذكر الربح والتجارة ترشيحاً له كقوله :
ولما رأيت النسر عز ابن دأية
وعشش في وكريه جاش له صدري
لما شبه الشيب بالنسر والشعر الفاحم بالغراب أتبعه ذكر التعشيش والوكر.
﴿ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [البقرة : ١٦] لطرق التجارة كما يكون التجار المتصرفون العالمون بما يربح فيه ويخسر.
والمعنى أن مطلوب التجار سلامة رأس المال والربح وهؤلاء قد أضاعوهما، فرأس مالهم الهدى ولم يبق لهم مع الضلالة، وإذا لم يبق لهم إلا الضلالة لم يوصفوا بإصابة الربح وإن ظفروا بالأغراض الدنيوية لأن الضال خاسر، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله قد ربح.
وقيل : الذين صفة أولئك وفما ربحت تجارتهم إلى آخر الآية في محل رفع خبر أولئك.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٣


الصفحة التالية
Icon