بضوئهم لقوله فلما أضاءت لأن ذكر النور أبلغ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة والمراد إزالة النور عنهم رأساً، ولو قيل ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نوراً، ألا ترى كيف ذكر عقيبه ﴿ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـاتٍ ﴾ [البقرة : ١٧] والظلمة عرض ينافي النور.
وكيف جمعها وكيف نكرها وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة لا يتراءى فيها شبحان وهو قوله ﴿ لا يُبْصِرُونَ ﴾ [البقرة : ١٧] وترك بمعنى طرح وخلى إذا علق بواحد، فإذا علق بشيئين كان مضمناً معنى صير فيجري مجرى أفعال القلوب ومنه وتركهم في ظلمات أصله " هم في ظلمات " ثم دخل " ترك " فنصب الجزأين والمفعول الساقط من لا يبصرون من قبيل المتروك المطروح لا من قبيل المقدر المنوي كأن الفعل غير متعدٍ أصلاً.
وإنما شبهت حالهم بحال المستوقد لأنهم غب الإضاءة وقعوا في ظلمة وحيرة، نعم المنافق خابط في ظلمات الكفر أبداً ولكن المواد ما استضاؤوا به قليلاً من الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم، أو وراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق المفضية بهم إلى ظلمة العقاب السرمدي.
وللآية تفسير آخر وهو أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد، والضلالة التي اشتروها بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم في الظلمات وتنكير النار للتعظيم.
﴿ صُمُّ بُكْمٌ عُمْىٌ ﴾ [البقرة : ١٨] أي هم صم، كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدوا عن الإصاخة إلى الحق مسامعهم، وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم وأن ينظروا أو يتبصروا بعيونهم جعلوا كأنما إنفت مشارعهم.
وطريقته عند علماء البيان طريقة قولهم : هم ليوث للشجعان وبحور للأسخياء إلا أن هذا في الصفات وذلك في الأسماء، وما في الآية تشبيه بليغ في الأصح لا استعارة لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون، والاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له ويجعل الكلام خلواً عنه صالحاً لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٧
﴿ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ﴾ [البقرة : ١٨] لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها لتنوع الرجوع إلى الشيء.
وعنه أو أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين في مكانهم لا يبرحون ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون.
٥٩
﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَـاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ﴾ [البقرة : ١٩] ثنى الله سبحانه وتعالى في شأنهم بتمثيل آخر لزيادة الكشف والإيضاح.
وشبه المنافق في التمثيل الأول بالمستوقد ناراً وإظهاره الإيمان بالإضاءة وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار، وهنا شبه دين الإسلام بالصيب لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، وما يتعلق به من شبه الكفار بالظلمات، وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق، وما يصيبهم من الأفزاع والبلايا من جهة أهل الإسلام بالصواعق.
والمعنى أو كمثل ذوي صيب فحذف " مثل " لدلالة العطف عليه " وذوي " لدلالة يجعلون عليه.
والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء بهذه الصفة فلقوا منها ما لقوا، فهذا تشبيه أشياء بأشياء إلا أنه لم يصرح بذكر المشبهات كما صرح في قوله :﴿ وَمَا يَسْتَوِى الاعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ وَلا الْمُسِى ءُ ﴾ [غافر : ٥٨] (غافر : ٨٥)، وقول امرىء القيس :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٧
كأن قلوب الطير رطباً ويابسا
لدى وكرهاً العناب والحشف البالي


الصفحة التالية
Icon