بل جاء به مطوياً ذكره على سنن الاستعارة.
والصحيح أن التمثيلين من جملة التمثيلات المركبة دون المفرقة لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به.
بيانه أن العرب تأخذ أشياء فرادى معزولاً بعضها من بعض لم يأخذ هذا بحجزة ذاك فتشبهها بنظائرها كما فعل امرؤ القيس، وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامت وتلاصقت حتى عادت شيئاً واحداً بأخرى مثلها كقوله تعالى :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاـاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ﴾ [الجمعة : ٥] (الجمعة : ٥) الآية.
فالمراد تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوارة بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة، وتساوي الحالتين عنده من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأوقار لا يشعر من ذلك إلا بما يمر بدفيه من الكد والتعب.
وكقوله :﴿ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَـاهُ مِنَ السَّمَآءِ ﴾ [الكهف : ٤٥] (الكهف : ٥٤)، فالمراد قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة بقاء الخضر فهو تشبيه كيفية بكيفة، فأما أن يراد
٦٠
تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض ومصيرة شيئاً واحداً فلا.
فكذلك لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة، شبهت حيرتهم وشدة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد أيقادها في ظلمة الليل، وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق، والتمثيل الثاني أبلغ لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر ولذا أخر، وهم يتدرجون في مثل هذا من الأهوان إلى الأغلظ.
وعطف أحد التمثيلين على الآخر بـ " أو " لأنها في أصلها لتساوي شيئين فصاعداً في الشك عند البعض، ثم استعيرت لمجرد التساوي كقولك " جالس الحسن أو ابن سيرين " تريد أنهما سيان في استصواب أن يجالسا، وقوله تعالى :﴿ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِمًا أَوْ كَفُورًا ﴾ [الإنسان : ٢٤] (الدهر : ٤٢)، أي الآثم والكفور سيان في وجوب العصيان فكذا هنا معناه أن كيفية قصة المنافقين مشبهة لكيفيتي هاتين القصتين وأن الكيفيتين سواء في استقلال كل واحدة منهما بوجه التمثيل، فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب، وإن مثلتها بهما جميعاً فكذلك.
والصيب : المطر الذي يصوب أي ينزل ويقع يقال للسحاب صيب أيضاً.
وتنكير " صيب " لأنه نوع من المطر شديد هائل كما نكرت النار في التمثيل الأول، والسماء هذه المظلة.
وعن الحسن أنها موج مكفوف.
والفائدة في ذكر السماء.
والصيب لا يكون إلا من السماء أنه جاء بالسماء معرفة فأفاد أنه غمام أخذ بآفاق السماء ونفى أن يكون من سماء أي من أفق واحد من بين سائر الآفاق، لأن كل أفق من آفاقها سماء، ففي التعريف مبالغة كما في تنكير صيب وتركيبه وبنائه، وفيه دليل على أن السحاب من السماء ينحدر ومنها يأخذ ماءه، وقيل : إنه يأخذ من البحر ويرتفع.
ظلمات مرفوع بالجار والمجرور لأنه قد قوي لكونه صفة لصيب بخلاف ما لو قلت ابتداء " فيه
٦١
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٧