الذي لا ينقطع، وفيه بطلان قول الجهمية فإنهم يقولون بفناء الجنة وأهلها لأنه تعالى وصف بأنه الأول الآخر، وتحقيق وصف الأولية بسبقه على الخلق أجمع فيجب تحقيق وصف الآخرية بالتأخر عن سائر المخلوقات، وذا إنما يتحقق بعد فناء الكل فوجب القول به ضرورة، ولأنه تعالى باقٍ وأوصافه باقية فلو كانت الجنة باقية مع أهلها لوقع التشابه بين الخالق والمخلوق وذا محال.
قلنا : الأول في حقه هو الذي لا ابتداء لوجوده، والآخر هو الذي لا انتهاء له، وفي حقنا الأول هو الفرد السابق والآخر هو الفرد اللاحق، واتصافه بهما لبيان صفة الكمال ونفي النقيصة والزوال، وذا في تنزيهه عن احتمال الحدوث والفناء لا فيما قالوه، وأنى يقع التشابه في البقاء وهو تعالى باقٍ لذاته وبقاؤه واجب الوجود وبقاء الخلق به وهو جائز الوجود.
لما ذكر الله تعالى الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب به مثلاً ضحكت اليهود وقالوا ما يشبه هذا كلام الله فنزل.
﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلا مَّا بَعُوضَةً ﴾ أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحي أن يتمثل بها لحقارتها.
وأصل الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ويذم، ولا يجوز على القديم التغير خوف والذم ولكن الترك لما كان من لوازمه عبر عنه به، ويجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة فقالوا : أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت، فجاءت على سبيل المقابلة وإطباق الجواب على السؤال، وهو فن من كلامهم بديع ـــــ وفيه لغتان : التعدي بنفسه وبالجار.
يقال : استحييته واستحييت منه وهما محتملتان هنا، وضرب المثل صنعة من ضرب اللبن وضرب الخاتم.
و " ما " هذه إبهامية وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاماً وزادته عموماً كقولك :" أعطني كتاباً ما " تريد أي كتاب كان، أو صلة للتأكيد كالتي في قوله تعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٠
﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَـاقَهُمْ ﴾ [المائدة : ١٣] (النساء : ٥٥١)، كأنه قال : لا يستحي أن يضرب مثلاً البتة.
وبعوضة عطف بيان لـ " مثلاً " أو مفعول لـ " يضرب " ومثلاً حال من
٧٣
النكرة مقدمة عليه، أو انتصبا مفعولين على أن " ضرب " بمعنى " جعل " واشتقاقها من البعض وهو القطع كالبضع والعضب.
يقال بعضه البعوض ومنه بعض الشيء لأنه قطعة منه، والبعوض في أصله صفة على فعول كالقطوع فغلبت.
﴿ فَمَا فَوْقَهَا ﴾ [البقرة : ٢٦] فما تجاوزها وزاد عليها في المعنى الذي ضربت فيه مثلاً وهو القلة والحقارة، أو فما زاد عليها في الحجم كأنه أراد بذلك رد ما استنكروه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت لأنهما أكبر من البعوضة.
ولا يقال كيف يضرب المثل بما دون البعوضة وهي النهاية في الصغر لأن جناح البعوضة أقل منها وأصغر بدرجات وقد ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلّم مثلاً للدنيا.
﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [البقرة : ٢٦] الضمير للمثل أو لأن يضرب والحق الثابت الذي لا يسوغ إنكاره يقال حق الأمر إذا ثبت ووجب ﴿ مِن رَّبِّهِمْ ﴾ [محمد : ٣] في موضع النصب على الحال والعامل معنى الحق وذو الحال الضمير المستتر فيه ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَـاذَا مَثَلا ﴾ [البقرة : ٢٦] ويوقف عليه إذ لو وصل لصار ما بعده صفة له وليس كذلك.
وفي قولهم ماذا أراد الله بهذا مثلاً استحقار كما قالت عائشة رضي الله عنها في عبد الله بن عمرو : يا عجباً لابن عمرو هذا محقرة له.
ومثلاً نصب على التمييز أو على الحال كقوله ﴿ هَـاذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً ﴾ [الأعراف : ٧٣] (الأعراف : ٣٧) وأما حرف فيه معنى الشرط ولذا يجاب بالفاء، وفائدته في الكلام أن يعطيه فضل توكيد.
تقول : زيد ذاهب.
فإذا قصدت توكيده وأنه لا محالة ذاهب قلت : أما زيد فذاهب، ولذا قال سيبويه في تفسيره : مهما يكن من شيء فزيد ذاهب، وهذا التفسير يفيد كونه تأكيداً وأنه في معنى الشرط.
وفي إيراد الجملتين مصدرتين به وإن لم يقل فالذين آمنوا يعلمون والذين كفروا يقولون، إحماد عظيم لأمر المؤمنين واعتداد بليغ بعلمهم أنه الحق، ونعي على الكافرين إغفالهم حظهم ورميهم بالكلمة الحمقاء.
وماذا فيه وجهان : أن يكون " ذا " اسماً موصولاً بمعنى
٧٤


الصفحة التالية
Icon