والقبلة الجهة التي يستقبلها الإنسان في الصلاة لأن المصلي يقابلها ﴿ قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾ [البقرة : ١٤٢] أي بلاد المشرق والمغرب والأرض كلها له ﴿ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ﴾ [البقرة : ٢٧٢] من أهلها ﴿ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة : ١٤٢] طريق مستوٍ.
أي يرشد من يشاء إلى قبلة الحق وهي الكعبة التي أمرنا بالتوجه إليها، أو الأماكن كلها لله فيأمر بالتوجه إلى حيث شاء فتارة إلى الكعبة وطوراً إلى بيت المقدس لا اعتراض عليه لأنه المالك وحده.
﴿ وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ ﴾ [البقرة : ١٤٣] ومثل ذلك الجعل العجيب جعلناكم فالكاف للتشبيه و " ذا " جر بالكاف واللام للفرق بين الإشارة إلى القريب والإشارة إلى البعيد والكاف للخطاب لا محل لها من الإعراب.
﴿ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة : ١٤٣] خياراً.
وقيل : للخيار وسط لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والأوساط محمية أي كما جعلت قبلتكم خير القبل جعلتكم خير الأمم، أو عدولاً لأن الوسط عدل بين الأطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض.
أي كما جعلنا قبلتكم متوسطة بين المشرق والمغرب جعلناكم أمة وسطاً بين الغلو والتقصير فإنكم لم تغلوا غلو النصارى حيث وصفوا المسيح بالألوهية، ولم تقصروا تقصير اليهود حيث وصفوا مريم بالزنا وعيسى بأنه ولد الزنا ﴿ لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ ﴾ [البقرة : ١٤٣] غير منصرف لمكان ألف التأنيث ﴿ عَلَى النَّاسِ ﴾ [الأعراف : ١٤٤] صلة شهداء ﴿ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٣٠
البقرة : ١٤٣] عطف على لتكونوا.
روي أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم فيؤتى بأمة محمد عليه السلام فيشهدون فتقول الأمم : من أين عرفتم؟ فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق، فيؤتى بمحمد عليه السلام فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم.
والشهادة قد تكون بلا مشاهدة كالشهادة بالتسامع في الأشياء المعروفة.
ولما كان الشهيد كالرقيب جيء بكلمة الاستعلاء كقوله تعالى :﴿ كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ﴾ [المائدة : ١١٧] (المائدة : ٧١).
وقيل : لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصح إلا بشهادة العدول الأخيار، ويكون الرسول عليكم شهيداً يزكيكم ويعلم بعدالتكم.
واستدل
١٣٢
الشيخ أبو منصور رحمه الله بالآية على أن الإجماع حجة لأن الله تعالى وصف هذه الأمة بالعدالة، والعدل هو المستحق للشهادة وقبولها فإذا اجتمعوا على شيء وشهدوا به لزم قبوله.
وأخرت صلة الشهادة أولاً وقدمت آخراً لأن المراد في الأول إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم.
﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ ﴾ [البقرة : ١٤٣] أي وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها وهي الكعبة، فالتي كنت عليها ليست بصفة للقبلة بل هي ثاني مفعولي جعل.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تأليفاً لليهود ثم حول إلى الكعبة.
﴿ إِلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ [البقرة : ١٤٣] أي وما جعلنا القبلة التي تحب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أولاً بمكة إلا امتحاناً للناس وابتلاء لنعلم الثابت على الإسلام الصادق فيه ممن هو على حرف ينكص على عقبيه لقلقه يرجع فيرتد عن الإسلام عند تحويل القبلة.
قال الشيخ أبو منصور رحمه الله : معنى قوله لنعلم أي لنعلم كائناً أو موجوداً ما قد علمناه أنه يكون ويوجد، فالله تعالى عالم في الأزل بكل ما أراد وجوده أنه يوجد في الوقت الذي شاء وجوده فيه ولا يوصف بأنه عالم في الأزل بأنه موجود كائن لأنه ليس بموجود في الأزل فكيف يعلمه موجوداً، فإذا صار موجوداً يدخل تحت علمه الأزلي فيصير معلوماً له موجوداً كائناً، والتغير على المعلوم لا على العلم.
أو لنميز التابع من الناكص كما قال تعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٣٠


الصفحة التالية
Icon