﴿ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَـاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [التوبة : ١] من لابتداء الغاية متعلق بمحذوف، أي هذه براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم كما تقول " كتاب من فلان إلى فلان "، أو مبتدأ لتخصصها بصفتها والخبر ﴿ إِلَى الَّذِينَ عَـاهَدتُّم ﴾ [التوبة : ١] كقولك " رجل من بني تمم في الدار " والمعنى أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين وأنه منبوذ إليهم ﴿ فَسِيحُوا فِى الارْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾ [التوبة : ٢] فسيروا في الأرض كيف شئتم.
والسيح : السير على مهل.
روي أنهم عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب فنكثوا إلا ناساً منهم ـ وهم بنو ضمرة وبنو كنانة ـ فنبذ العهد إلى الناكثين وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاءوا لا يتعرض لهم، وهي الأشهر الحرم في قوله ﴿ فَإِذَا انسَلَخَ الاشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ﴾ [التوبة : ٥] وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها.
وكان نزولها سنة تسع من الهجرة وفتح مكة سنة ثمان، وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد، وأمّر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا بكر على موسم سنة تسع، ثم أتبعه علياً راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم فقيل له : لو بعثت بها إلى أبي بكر.
فقال : لا يؤدّي عني إلا رجل مني.
فلما دنا علي سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال : هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
فلما لحقه قال : أمير أو مأمور؟ قال : مأمور.
فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحثهم على مناسكهم وقال عليّ يوم النحر عند جمرة العقبة فقال : يا أيها الناس، إني رسول رسول الله إليكم فقالوا : بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية، ثم قال : أمرت بأربع : أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده، فقالوا عند ذلك : يا علي أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، وأنه
١٦٦
ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف ؛ والأشهر الأربعة : شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، أو عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من ربيع الآخر، وكانت حرماً لأنهم أمنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم، أو على التغليب لأن ذا الحجة والمحرم منها.
والجمهور على إباحة القتال في الأشهر الحرم وأن ذلك قد نسخ
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٦٥
﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ﴾ [التوبة : ٢] لا تفوتونه وإن أمهلكم ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِى الْكَـافِرِينَ ﴾ [التوبة : ٢] مذلهم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالعذاب.
﴿ وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ ﴾ ارتفاعه كارتفاع ﴿ بَرَآءَةٌ ﴾ على الوجهين، ثم الجملة معطوفة على مثلها، والأذان بمعنى الإيذان وهو الإعلام كما أن الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء، والفرق بين الجملة الأولى والثانية أن الأولى إخبار بثبوت البراءة، والثانية إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت.
وإنما علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين، وعلق الأذان بالناس، لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم، وأما الأذان فعام لجميع الناس من عاهد ومن لم يعاهد، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث ﴿ يَوْمَ الْحَجِّ الاكْبَرِ ﴾ [التوبة : ٣] يوم عرفة لأن الوقوف بعرفة معظم أفعال الحج، أو يوم النحر لأن فيه تمام الحج من الطواف، والنحر، والحلق، والرمي، ووصف الحج بالأكبر، لأن العمرة تسمى الحج الأصغر ﴿ أَنَّ اللَّهَ بَرِى ءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [التوبة : ٣] أي بأن الله حذفت صلة الأذان تخفيفاً ﴿ وَرَسُولُهُ ﴾ عطف على المنوي في ﴿ بَرِى ءٌ ﴾ أو على الابتداء وحذف الخبر أي ورسوله بريء، وقرىء بالنصب عطفاً على إسم " إن "، وبالجر على الجوار، أو على القسم كقولك " لعمرك ".
وحكي أن أعرابياً سمع رجلاً يقرؤها فقال : إن كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء، فلببه الرجل إلى عمر فحكى الأعرابي قراءته فعندها أمر عمر بتعلم العربية ﴿ فَإِن تُبْتُمْ ﴾ [التوبة : ٣] من الكفر والغدر ﴿ فَهُوَ ﴾ أي التوبة ﴿ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ [البقرة : ١٨٤] من الأصرار على الكفر
١٦٧