﴿ ذَرْهُمْ ﴾ أمر إهانة أي اقطع طمعك من ارعوائهم ودعهم عن النهي عما هم عليه والصد عنه بالتذكرة والنصيحة وخلهم ﴿ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا ﴾ [الحجر : ٣] بدنياهم ﴿ وَيُلْهِهِمُ الامَلُ ﴾ [الحجر : ٣] ويشغلهم أملهم وأمانيهم عن الإيمان ﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الحجر : ٣] سوء صنيعهم وفيه تنبيه على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من أخلاق المؤمنين ﴿ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ ﴾ [الحجر : ٤] ولها كتاب جملة واقعة صفة لقرية والقياس أن لا يتوسط الواو بينهما كما في ﴿ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنذِرُونَ ﴾ [الشعراء : ٢٠٨] وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف إذ الصفة ملتصقة بالموصوف بلا واو فجيء بالواو تأكيداً لذلك والوجه أن تكون هذه الجملة حالاً لقرية لكونها في حكم الموصوفة كأنه قيل : وما أهلكنا قرية من القرى لا وصفاً وقوله : كتاب معلوم أي مكتوب معلوم وهو أجلها الذي كتب في اللوح المحفوظ وبين ألا ترى إلى قوله :﴿ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا ﴾ [الحجر : ٥] في موضع كتابها ﴿ وَمَا يَسْتَـاْخِرُونَ ﴾ أي عنه وحذف لأنه معلوم وأنث الأمة أولاً ثم ذكرها آخراً حملاً على اللفظ والمعنى ﴿ وَقَالُوا ﴾ أي الكفار ﴿ يَـا أَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ ﴾ [الحجر : ٦] أي القرآن ﴿ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾ [الحجر : ٦] يعنون محمداً عليه السلام وكان هذا النداء منهم على وجه الاستهزاء كما قال فرعون ﴿ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾ [الشعراء : ٢٧] وكيف يقرون بنزول الذكر عليه وينسبونه إلى الجنون والتعكيس في كلامهم للاستهزاء والتهكم سائغ ومنه ﴿ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [آل عمران : ٢١].
﴿ إِنَّكَ لانتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾ [هود : ٨٧] والمعنى إنك لتقول قول المجانين حيث تدعى أن الله نزل عليك الذكر
٣٨٦
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٨٦
﴿ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَـائكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ ﴾ [الحجر : ٧] لو ركبت مع لا وما لامتناع الشيء لوجود غيره أو للتحضيض وهل ركبت مع لا للتحضيض فحسب والمعنى هلا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك أو هلا تأتينا بالملائكة للعقاب على تكذيبنا لك إن كنت صادقاً ﴿ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَـائكَةَ ﴾ [الحجر : ٨] كوفي غير أبي، تُنَزَّل الملائكة أبو بكر تَنَزَّل الملائكة أي تتنزل غيرهم ﴿ إِلا بِالْحَقِّ ﴾ [الأنعام : ١٥١] إلا تنزيلاً ملتبساً بالحكمة ﴿ وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنظَرِينَ ﴾ [الحجر : ٨] إذا جواب لهم وجزاء الشرط مقدر تقديره ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين إذا وما أخر عذابهم ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ﴾ [الحجر : ٩] القرآن ﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَـافِظُونَ ﴾ [يوسف : ١٢] وهو رد لإنكارهم واستهزائهم في قولهم : يا أيها الذي نزل عليه الذكر ولذلك قال : إنا نحن فأكد عليهم أنه هو المنزل على القطع وأنه هو الذي نزله محفوظاً من الشياطين وهو حافظه في كل وقت من الزيادة والنقصان والتحريف والتبديل بخلاف الكتب المتقدمة فإنه لم يتول حفظها وإنما استحفظها الربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم بغياً فوقع التحريف ولم يكل القرآن إلى غير حفظه وقد جعل قوله : وإنا له لحافظون دليلاً على أنه منزل من عنده آية إذ لو كان من قول البشر أو غير آية لتطرق عليه الزيادة والنقصان كما يتطرق على كل كلام سواه أو الضمير في له لرسول الله صلى الله عليه وسلّم كقوله :﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ ﴾ [المائدة : ٦٧] ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى شِيَعِ الاوَّلِينَ ﴾ [الحجر : ١٠] أي ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً في الفرق الأولين، والشيعة : الفرقة إذا اتفقوا على مذهب وطريقة ﴿ وَمَا يَأْتِيهِم ﴾ [الشعراء : ٥] حكاية حالة ماضية لأن ما لا تدخل على المضارع إلا وهو في معنى الحال وعلى ماض إلا وهو قريب من الحال ﴿ مِّن رَّسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ﴾ يعزي نبيه عليه السلام
٣٨٧
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٨٧