﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَآءُو بِالافْكِ ﴾ هو أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء، وأصله الأفك وهو القلب لأنه قول مأفوك عن وجهه والمراد ما أفك به على عائشة رضي الله عنها، قالت عائشة : فقدت عقداً في غزوة بني المصطلق فتخلفت ولم يعرف خلو الهودج لخفتي، فلما ارتحلوا أناخ لي صفوان بن المعطل بعيره وساقه حتى أتاهم بعد ما نزلوا فهلك فيّ من هلك، فاعتللت شهراً وكان عليه الصلاة والسلام يسأل " كيف أنت " ؟ ولا أرى منه لطفاً كنت أراه حتى عثرت خالة أبي أم مسطح فقالت : تعس مسطح فأنكرت عليها فأخبرتني بالإفك، فلما سمعت ازددت مرضاً وبت عند أبوي لا يرقأ لي دمع وما أكتحل بنوم وهما يظنان أن الدمع فالق كبدي حتى قال عليه الصلاة والسلام " ابشري يا حميراء فقد أنزل الله براءتك " فقلت : بحمد الله لا بحمدك ﴿ عُصْبَةٌ ﴾ جماعة من العشرة إلى الأربعين واعصوصبوا اجتمعوا وهم : عبد الله بن أبي رأس النفاق، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم ﴿ مِنكُمُ ﴾ من جماعة المسلمين وهم ظنوا أن الإفك وقع من الكفار دون من كان من المؤمنين
٢٠٠
﴿ لا تَحْسَبُوهُ ﴾ [النور : ١١] أي الإفك ﴿ شَرًّا لَّكُمْ ﴾ [النور : ١١] عند الله ﴿ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ [النور : ١١] لأن الله أثابكم عليه وأنزل في البراءة منه ثماني عشرة آية، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعائشة وصفوان ومن ساءه ذلك من المؤمنين ﴿ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الاثْمِ ﴾ [النور : ١١] أي على كل امريء من العصبة جزاء إثمه على مقدار خوضه فيه، وكان بعضهم ضحك وبعضهم تكلم فيه وبعضهم سكت.
﴿ وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ ﴾ [النور : ١١] أي عظمه عبد الله بن أبيّ ﴿ مِّنْهُم ﴾ أي من العصبة ﴿ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور : ١١] أي جهنم.
يحكى أن صفوان مر بهودجها عليه وهو في ملأ من قومه فقال : من هذه؟ فقالوا : عائشة.
فقال : والله ما نجت منه ولا نجا منها.
ثم وبخ الخائضين فقال :
ق>
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٠٠
﴿ لَّوْلا ﴾ هلا ﴿ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ﴾ [النور : ١٢] أي الإفك ﴿ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَـاتُ بِأَنفُسِهِمْ ﴾ [النور : ١٢] بالذين منهم فالمؤمنون كنفس واحدة وهو كقوله ﴿ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ﴾ [الحجرات : ١١] ﴿ خَيْرًا ﴾ عفافاً وصلاحاً وذلك نحو ما يروى أن عمر رضي الله عنه قال لرسول الله عليه الصلاة والسلام : أنا قاطع بكذب المنافقين لأن الله عصمك من وقوع الذباب على جلدك لأنه يقع على النجاسات فيتلطخ بها، فلما عصمك الله من ذلك القدر من القذر فكيف لا يعصمك عن صحبة من تكون متلطخة بمثل هذه الفاحشة؟ وقال عثمان : إن الله ما أوقع ظلك على الأرض لئلا يضع إنسان قدمه على ذلك الظل، فلما لم يمكن أحداً من وضع القدم على ظلك كيف يمكن أحداً من تلويث عرض زوجتك؟ وكذا قال علي رضي الله عنه : إن جبريل أخبرك أن على نعليك قذراً وأمرك بإخراج النعل عن رجلك بسبب ما التصق به من القذر فكيف لا يأمرك بإخراجها بتقدير أن تكون متلطخة بشيء من الفواحش.
وروي أن أبا أيوب الأنصاري قال لامرأته : ألا ترين ما يقال؟ فقالت : لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرم رسول الله سوءً؟ فقال : لا.
قالت : ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله فعائشة خير مني وصفوان خير منك.
وإنما عدل عن الخطاب إلى الغيبة وعن الضمير إلى الظاهر ولم يقل " ظننتم بأنفسكم خيراً وقلتم " ليبالغ في التوبيخ بطريق الالتفات، وليدل التصريح بلفظ الإيمان على أن
٢٠١
الاشتراك فيه يقتضي أن لا يصدق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا طاعن، وهذا من الأدب الحسن الذي قل القائم به والحافظ له، وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يشيع ما سمعه بإخوانه ﴿ وَقَالُوا هَـاذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ ﴾ [النور : ١٢] كذب ظاهر لا يليق بهما.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٠١


الصفحة التالية
Icon