﴿ لاكِيدَنَّ أَصْنَـامَكُم ﴾ [الأنبياء : ٥٧] لأكسرنها ﴿ بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ﴾ [الأنبياء : ٥٧] بعد ذهابكم عنها إلى عيدكم، قال ذلك سراً من قومه فسمعه رجل واحد فعرض بقوله ﴿ إِنِّى سَقِيمٌ ﴾ [الصافات : ٨٩] أي سأسقم ليتخلف.
فرجع إلى بيت الأصنام ﴿ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا ﴾ [الأنبياء : ٥٨] قطعاً من الجذ وهو القطع جمع جذاذة كزجاجة وزجاج جذاذا بالكسر : علي، جمع جذيذ أي مجذوذ كخفيف وخفاف ﴿ إِلا كَبِيرًا لَّهُمْ ﴾ [الأنبياء : ٥٨] للأصنام أو للكفار أي فكسرها كلها بفأس في يده إلا كبيرها فعلق الفأس في عنقه ﴿ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ ﴾ [الأنبياء : ٥٨] إلى الكبير ﴿ يَرْجِعُونَ ﴾ فيسألونه عن كاسرها فتبين لهم عجزه، أو إلى إبراهيم ليحتج عليهم، أو إلى الله لما رأوا عجز التهم ﴿ قَالُوا ﴾ أي الكفار حين رجعوا من عيدهم ورأوا ذلك ﴿ مَن فَعَلَ هَـاذَا بِـاَالِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظَّـالِمِينَ ﴾ [الأنبياء : ٥٩] أي إن من فعل هذا الكسر لشديد الظلم لجراءته على الآلهة الحقيقة عندهم بالتوقير والتعظيم ﴿ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُا إِبْرَاهِيمُ ﴾ [الأنبياء : ٦٠] الجملتان صفتان لـ فتى إلا أن الأول وهو يذكرهم أي يبيعهم لا بد منه للسمع لأنك لا تقول " سمعت زيداً " وتسكت حتى تذكر شيئاً مما يسمع بخلاف الثاني.
وارتفاع إبراهيم بأنه فاعل يقال فالمراد الاسم المسمى أي الذي يقال له هذا الاسم ﴿ قَالُوا ﴾ أي نمروذ وأشراف قومه ﴿ فَأْتُوا بِهِ ﴾ [الأنبياء : ٦١] أحضروا إبراهيم ﴿ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ ﴾ [الأنبياء : ٦١] في محل الحال بمعنى معايناً مشاهداً أي بمرأى منهم ومنظر
١٢٥
﴿ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ﴾ [الأنبياء : ٦١] عليه بما سمع منه أو بما فعله كأنهم كرهوا عقابه بلا بينة أو يحضرون عقوبتنا له.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٢٥
فلما أحضروه ﴿ قَالُوا ءَأَنتَ فَعَلْتَ هَـاذَا بِـاَالِهَتِنَا يَـاإِبْرَاهِيمُ ﴾ إبراهيم ﴿ بَلْ فَعَلَهُ ﴾ [الأنبياء : ٦٣] عن الكسائي : إنه يقف عليه أي فعله من فعله، وفيه حذف الفاعل وأنه لا يجوز، وجاز أن يكون الفاعل مسنداً إلى الفتى المذكور في قوله سمعنا فتى يذكرهم أو إلى إبراهيم في قوله يا إبراهيم ثم قال ﴿ كَبِيرُهُمْ هَـاذَا ﴾ [الأنبياء : ٦٣] وهو مبتدأ وخبر.
والأكثر أنه لا وقف، والفاعل كبيرهم وهذا وصف أو بدل، ونسب الفعل إلى كبيرهم وقصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي تبكيتاً لهم وإلزاماً للحجة عليهم لأنهم إذا نظروا النظر الصحيح علموا عجز كبيرهم وأنه لا يصلح إلهاً، وهذا كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتاباً بخط رشيق أنيق : أأنت كتبت هذا وصاحبك أمي فقلت له " بل كتبته أنت " كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به لا نفيه عنك وإثباته للأمي، لأن إثباته للعاجز منكما والأمر كائن بينكما استهزاء به وإثبات للقادر، ويمكن أن يقال : غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة وكان غيظ كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له، فأسند الفعل إليه لأن الفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه، ويجوز أن يكون حكاية لما يقود إلى تجويزه مذهبهم كأنه قال لهم : ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبد ويدعى إلهاً أن يقدر على هذا.
ويحكى أنه قال : غضب أن تعبد هذه الصغار معه وهو أكبر منها فكسرهن، أو هو متعلق بشرط لا يكون وهو نطق الأصنام فيكون نفياً للمخبر عنه أي بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون، وقوله ﴿ فَسْـاَلُوهُمْ ﴾ اعتراض.
وقيل : عرض بالكبير لنفسه وإنما أصناف نفسه إليهم لاشتراكهم في الحضور ﴿ فَسْـاَلُوهُمْ ﴾ عن حالهم ﴿ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ﴾ [الأنبياء : ٦٣] وأنتم تعلمون عجزهم عنه.
﴿ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ ﴾ [الأنبياء : ٦٤] فرجعوا إلى عقولهم وتفكروا بقلوبهم لما أخذ بمخانقهم ﴿ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّـالِمُونَ ﴾ [الأنبياء : ٦٤] على الحقيقة بعبادة ما لا ينطق لا من ظلمتموه حين قلتم من فعل هذا بالهتنا إنه لمن الظالمين فإن من لا يدفع عن رأسه
١٢٦
الفاس، كيف يدفع عن عابديه البأس؟
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٢٦