﴿ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ ﴾ قال أهل التفسير : أجرى الله تعالى الحق على لسانهم في القول الأول، ثم أدركتهم الشقاوة أي ردوا إلى الكفر بعد أن أقروا على أنفسهم بالظلم، يقال : نكسته قلبته فجعلت أسفله أعلاه أي استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وجاؤوا بالفكرة الصالحة ثم انقلبوا عن تلك الحالة فأخذوا في المجادلة بالباطل والمكابرة وقالوا ﴿ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ ﴾ [الأنبياء : ٦٥] فكيف تأمرنا بسؤالها؟ والجملة سدت مسد مفعولي علمت والمعنى لقد علمت عجزهم عن النطق فكيف نسألهم؟ ﴿ قَالَ ﴾ محتجاً عليهم ﴿ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شيئا ﴾ هو في موضع المصدر أي نفعاً ﴿ وَلا يَضُرُّكُمْ ﴾ [الأنبياء : ٦٦] إن لم تعبدوه ﴿ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ [الأنبياء : ٦٧] " أف " صوت إذا صوت به علم أن صاحبه متضجر، ضجر مما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم وبعد وضوح الحق فتأفف بهم واللام لبيان المتأفف به أي لكم ولالهتكم هذا التأفف أف مدني وحفص، أفّ مكي وشامي أفّ غيرهم ﴿ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة : ٤٤] أن من هذا وصفه لا يجوز أن يكون إلهاً.
فلما لزمتهم الحجة وعجزوا عن الجواب ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ ﴾ [الأنبياء : ٦٨] بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظع ﴿ وَانصُرُوا ءَالِهَتَكُمْ ﴾ [الأنبياء : ٦٨] بالانتقام منه ﴿ إِن كُنتُمْ فَـاعِلِينَ ﴾ [يوسف : ١٠] أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصراً مؤزراً فاختاروا له أهول المعاقبات وهو الإحراق بالنار وإلا فرطتم في نصرتها، والذي أشار بإحراقه نمروذ أو رجل من أكراد فارس.
وقيل : إنهم حين هموا بإحراقه حبسوه ثم بنوا بيتاً بكوثى وجمعوا شهراً أصناف الخشب ثم أشعلوا ناراً عظيمة كادت الطير تحترق في الجو من وهجها،
١٢٧
ثم وضعوه في المنجنيق مقيداً مغلولاً فرموا به فيها وهو يقول : حسبي الله ونعم الوكيل، وقال له جبريل : هل لك حاجة؟ فقال : أما إليك فلا.
قال : فسل ربك.
قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي.
وما أحرقت النار إلا وثاقه.
وعن ابن عباس : إنما نجا بقوله " حسبي الله ونعم الوكيل ".
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٢٧
﴿ قُلْنَا يَـانَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَـامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ أي ذات برد وسلام فبولغ في ذلك كأن ذاتها برد وسلام ﴿ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء : ٦٩] أراد أبردي فيسلم منك إبراهيم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها.
والمعنى أن الله تعالى نزع عنها طبعها الذي طبعها عليه من الحر والإحراق وأبقاها على الإضاءة والإشراق كما كانت وهو على كل شيء قدير ﴿ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا ﴾ [الأنبياء : ٧٠] إحراقاً ﴿ فَجَعَلْنَـاهُمُ الاخْسَرِينَ ﴾ [الأنبياء : ٧٠] فأرسل على نمروذ وقومه البعوض فأكلت لحومهم وشربت دماءهم ودخلت بعوضة في دماغ نمروذ فأهلكته ﴿ وَنَجَّيْنَـاهُ ﴾ أي إبراهيم ﴿ وَلُوطًا ﴾ ابن أخيه هاران من العراق ﴿ إِلَى الارْضِ الَّتِى بَـارَكْنَا فِيهَا لِلْعَـالَمِينَ ﴾ [الأنبياء : ٧١] أي أرض الشام وبركتها أن أكثر الأنبياء منها فانتشرت في العالمين آثارهم الدينية وهي أرض خصب يطيب فيها عيش الغني والفقير.
وقيل : ما من ماء عذب في الأرض إلا وينبع أصله من صخرة بيت المقدس.
روي أنه نزل بفلسطين ولوط بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة.
وقال عليه السلام " إنها ستكون هجرة بعد هجرة فخيار الناس إلى مهاجر إبراهيم ".
﴿ وَوَهَبْنَا لَهُا إِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ﴾ [الأنبياء : ٧٢] قيل : هو مصدر كالعافية من غير لفظ
١٢٨
الفعل السابق أي وهبنا له هبة : وقيل : هي ولد الولد وقد سأل ولداً فأعطيه وأعطي يعقوب نافلة أي زيادة فضلاً من غير سؤال وهي حال من يعقوب ﴿ وَكُلا ﴾ أي إبراهيم وإسحق ويعقوب وهو المفعول الأول لقوله ﴿ جَعَلْنَآ ﴾ والثاني ﴿ صَـالِحِينَ ﴾ في الدين والنبوة
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٢٨


الصفحة التالية
Icon