﴿ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ ﴾ هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان فسر بهما جواب القسم كأنه قيل : أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصاً، لأن إنزال القرآن من الأمور الحكمية وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم.
ومعنى ﴿ يُفْرَقُ ﴾ يفصل ويكتب كل أمر من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم من هذه الليلة إلى ليلة القدر التي تجيء في السنة المقبلة ﴿ حَكِيمٍ ﴾ ذي حكمة أي مفعول على ما تقتضيه الحكمة، وهو من الإسناد المجازي لأن الحكيم صفة صاحب الأمر على الحقيقة ووصف الأمر به مجازاً.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٨٦
﴿ أَمْرًا مِّنْ عِندِنَآ ﴾ [الدخان : ٥] نصب على الاختصاص جعل كل أمر جزلاً فخماً بأن وصفه بالحكيم، ثم زاده جزالة وفخامة بأن قال : أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا كما اقتضاه علمنا وتدبيرنا ﴿ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴾ [الدخان : ٥] بدل من ﴿ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ﴾ [الدخان : ٣] ﴿ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ [الإسراء : ٨٧] مفعول له على معنى أنزلنا القرآن.
لأن من شأننا وعادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا لأجل الرحمة عليهم، أو تعليل لقوله ﴿ أَمْرًا مِّنْ عِندِنَآ ﴾ [الدخان : ٥]، و ﴿ رَحْمَةً ﴾ مفعول به.
وقد وصف الرحمة بالإرسال كما وصفها به في قوله ﴿ وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ﴾ [فاطر : ٢] (فاطر : ٢) والأصل إنا كنا مرسلين رحمة منا فوضع الظاهر موضع الضمير إيذاناً بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين ﴿ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ﴾ [الإسراء : ١] لأقوالهم ﴿ الْعَلِيمُ ﴾ بأحوالهم ﴿ رَبِّ ﴾ كوفي بدل من ﴿ رَّبِّكَ ﴾ وغيرهم بالرفع أي هو ربٌ ﴿ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ﴾ [الشعراء : ٢٤] ومعنى الشرط أنهم كانوا يقرون بأن للسموات والأرض رباً وخالقاً فقيل لهم : إن إرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة من الرب، ثم قيل : إن هذا الرب هو السميع العليم الذي أنتم مقرّون به ومعترفون بأنه رب السماوات والأرض وما بينهما إن كان إقراركم عن علم وإيقان كما تقول : إن هذا إنعام زيد الذي تسامع الناس بكرمه إن بلغك حديثه وحدثت بقصته
١٨٧
﴿ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ ﴾ [الدخان : ٨] أي هو ربكم ﴿ وَرَبُّ ءَابَآ ـاِكُمُ الاوَّلِينَ ﴾ [الشعراء : ٢٦] عطف عليه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٨٦
ثم رد أن يكونوا موقنين بقوله ﴿ بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ يَلْعَبُونَ ﴾ [الدخان : ٩] وإن إقرارهم غير صادر عن علم وتيقن بل قول مخلوط بهزؤ ولعب ﴿ فَارْتَقِبْ ﴾ فانتظر ﴿ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَانٍ ﴾ [الدخان : ١٠] يأتي من السماء قبل يوم القيامة يدخل في أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ، ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص.
وقيل : إن قريشاً لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم دعا عليهم فقال :" اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف " فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف والعلهز، وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان وكان يحدث الرجل فيسمع كلامه ولا يراه من الدخان ﴿ مُّبِينٍ ﴾ ظاهر حاله لا يشك أحد في أنه دخان ﴿ يَغْشَى النَّاسَ ﴾ [الدخان : ١١] يشملهم ويلبسهم وهو في محل الجر صفة لـ ﴿ دُخَانٌ ﴾ وقوله ﴿ رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ ﴾ أي سنؤمن إن تكشف عنا العذاب منصوب المحل بفعل مضمر وهو يقولون ويقولون منصوب المحل على الحال أي قائلين ذلك ﴿ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى ﴾ [الدخان : ١٣] كيف يذكرون ويتعظون ويفون بما وعدوه من
١٨٨
الإيمان عند كشف العذاب ﴿ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ﴾ [الدخان : ١٣].
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٨٦