﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّـاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّـاكُمْ فِيهِ ﴾ [الأحقاف : ٢٦] " إن " نافية أي فيما ما مكنا كم فيه إلا أن " إن " أحسن في اللفظ لما في مجامعة ما مثلها من التكرير المستبشع، ألا ترى أن الأصل في " مهما " " ما ما " فلبشاعة التكرير قلبوا الألف هاء.
وقد جعلت " إن " صلة وتؤول بأنا مكناهم في مثل ﴿ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّـاكُمْ فِيهِ ﴾ (الأحقاف : ٦٢) والوجه هو الأول لقوله تعالى :﴿ هُمْ أَحْسَنُ أَثَـاثًا ﴾ (مريم : ٤٧) ﴿ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءَاثَارًا ﴾ [غافر : ٨٢] (غافر : ١٢) و " ما " بمعنى الذي أو نكرة موضوفة ﴿ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَـارًا وَأَفْـاِدَةً ﴾ [الأحقاف : ٢٦] أي آلات الدرك والفهم ﴿ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَـارُهُمْ وَلا أَفْـاِدَتُهُم مِّن شَىْءٍ ﴾ [الأحقاف : ٢٦] أي من شيء من الإغناء وهو القليل منه ﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّـاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّـاكُمْ ﴾ [الأحقاف : ٢٦] " إذ " نصب بقوله ﴿ فَمَآ أَغْنَى ﴾ [الأحقاف : ٢٦] وجرى مجرى التعليل لاستواء مؤدي التعليل والظرف في قولك : ضربته لإساءته وضربته إذ أساء، لأنك إذا ضربته في وقت إساءته فإنما ضربته فيه لوجود إساءته فيه إلا أن " إذ " و " حيث " غلبتا دون سائر الظروف في ذلك ﴿ وَحَاقَ بِهِم ﴾ [هود : ٨] ونزل بهم ﴿ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ﴾ [الأنعام : ٥] جزاء استهزائهم وهذا تهديد لكفار مكة ثم زادهم تهديداً بقوله :
﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم ﴾ [الأحقاف : ٢٧] يا أهل مكة ﴿ مِّنَ الْقُرَى ﴾ [الأحقاف : ٢٧] نحو حجر ثمود وقرى قوم لوط والمراد أهل القرى ولذلك قال ﴿ وَصَرَّفْنَا الايَـاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأحقاف : ٢٧] أي كررنا عليهم الحجج وأنواع العبر لعلهم يرجعون عن الطغيان إلى الإيمان فلم يرجعوا
٢١٥
﴿ فَلَوْلا ﴾ فهلا ﴿ نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا ءَالِهَةَ ﴾ [الأحقاف : ٢٨] القربان ما تقرب به إلى الله تعالى أي اتخذوهم شفعاء متقرباً بهم إلى الله تعالى حيث قالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله.
وأحد مفعولي " اتخذ " الراجع إلى " الذين " محذوف أي اتخذوهم والثاني ﴿ ءَالِهَةً ﴾ و ﴿ قُرْبَانًا ﴾ حال ﴿ بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ ﴾ [الأحقاف : ٢٨] غابوا عن نصرتهم ﴿ وَذَالِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [الأحقاف : ٢٨] ﴿ وَذَالِكَ ﴾ إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم وضلالهم عنهم أي وذلك أثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢١٤
﴿ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَرًا ﴾ [الأحقاف : ٢٩] أملناهم إليك وأقبلنا بهم نحوك والنفردون العشرة ﴿ مِّن الْجِنِّ ﴾ [النمل : ٣٩] جن نصيبين ﴿ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ ﴾ [الأحقاف : ٢٩] منه عليه الصلاة والسلام ﴿ فَلَمَّا حَضَرُوهُ ﴾ [الأحقاف : ٢٩] أي الرسول صلى الله عليه وسلّم أو القرآن أي كانوا منه بحيث يسمعون ﴿ قَالُوا ﴾ أي قال بعضهم لبعض ﴿ أَنصِتُوا ﴾ اسكتوا مستمعين روي أن الجن كانت تسترق السمع، فلما حرست السماء ورجموا بالشهب قالوا : ما هذا إلا لنبأ حدث.
فنهض سبعة نفر أو تسعة من أشراف جن نصيبين أو نينوى منهم زوبعة فضربوا حتى بلغوا تهامة ثم اندفعوا إلى وادي نخلة فوافوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو قائم في جوف الليل يصلي أو في صلاة الفجر فاستمعوا لقراءته.
وعن سعيد بن جبير : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم على الجن ولا رآهم وإنما كان يتلو في صلاته فمروا به فوقفوا مستمعين وهو لا يشعر فأنبأه الله باستماعهم.
وقيل : بل الله أمر رسوله أن ينذر الجن ويقرأ عليهم فصرف إليه نفراً منهم فقال :
٢١٦
إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فمن يتبعني؟ قالها ثلاثاً.
فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : لم يحضره ليلة الجن أحد غيري فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة في شعب الحجون فخط لي خطاً وقال : لا تخرج منه حتى أعود إليك، ثم اففتح القرآن وسمعت لغطاً شديداً فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم : هل رأيت شيئاً؟ قلت : نعم رجالاً سوداً.
فقال : أولئك جن نصيبين وكانوا اثني عشر ألفاً، والسورة التي قرأها عليهم ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾ [العلق : ١] (العلق : ١).