هذا الأسلوب الدلالة على قوة الاختصاص.
ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الله بالمكان الذي لا يخفى سلك به هذا المسلك، وفي هذا تمهيد لما نقم منهم من رفع أصواتهم فوق صوته عليه السلام، لأن من فضله الله بهذه الأثرة واختصه هذا الاختصاص كان أدنى ما يجب له من التهيب والإجلال أن يخفض بين يديه الصوت.
وعن الحسن أن إناساً ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة فنزلت، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يعيدوا ذبحاً آخر.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها نزلت في النهي عن صوم يوم الشك.
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [المائدة : ٨٨] فإنكم إن اتقيتموه عاقتكم التقوى عن التقدمة المنهي عنها ﴿ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعُ ﴾ [الحج : ٧٥] لما تقولون ﴿ عَلِيمٌ ﴾ بما تعملون وحق مثله أن يتقي.
﴿ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ [البقرة : ٢٧٨] إعادة النداء عليهم استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد، وتحريك منهم لئلا يغفلوا عن تأملهم ﴿ لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ ﴾ [الحجرات : ٢] أي إذا نطق ونطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عالياً لكلامكم وجهره باهراً لجهركم حتى تكون مزيته عليكم لائحة وسابقته لديكم واضحة ﴿ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ﴾ [الحجرات : ٢] أي إذا كلمتموه وهو صامت فإياكم والعدول عما نهيتم عنه من رفع الصوت بل عليكم أن لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم، وأن تتعمدوا في مخاطبته القول اللين المقرب من الهمس الذي يضاد الجهر، أو لا تقولوا : له يا محمد يا أحمد وخاطبوه بالنبوة والسكينة والتعظيم، ولما نزلت هذه الآية ما كلم النبي صلى الله عليه وسلّم أبو بكر وعمر إلا كأخي السرار.
وعن ابن عباس رضي الله عنهم أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وكان في أذانه وقر وكان جهوري الصوت، وكان إذا كلم رفع صوته وربما كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلّم فيتأذى بصوته، وكاف التشبيه في محل النصب أي لا تجهروا له جهراً مثل جهر بعضكم لبعض، وفي هذا أنهم لم ينهوا عن الجهر
٢٤٤
مطلقاً حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالمخافتة، وإنما نهوا عن جهر مخصوص أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منه فيما بينهم وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٤٣
﴿ أَن تَحْبَطَ أَعْمَـالُكُمْ ﴾ [الحجرات : ٢] منصوب الموضع على أنه المفعول له متعلق بمعنى النهي، والمعنى انتهوا عما نهيتم عنه لحبوط أعمالكم أي لخشية حبوطها على تقدير حذف المضاف ﴿ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ ﴾ [الزمر : ٥٥].
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ ﴾ [الحجرات : ٣] تم اسم " إن " عند قوله ﴿ رَسُولِ اللَّهِ ﴾ [الأحزاب : ٢١] والمعنى يخفضون أصواتهم في مجلسه تعظيماً له ﴿ أؤلئك ﴾ مبتدأ خبره ﴿ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ﴾ [الحجرات : ٣] وتم صلة ﴿ الَّذِينَ ﴾ عند قوله ﴿ لِلتَّقْوَى ﴾ و ﴿ أؤلئك ﴾ مع خبره خبر " إن ".
والمعنى أخلصها للتقوى من قولهم " امتحن الذهب وفتنة " إذا أذابه فخلص ابريزه من خبثه ونقاه، وحقيقته عاملها معاملة المختبر فوجدها مخلصة وعن عمر رضي الله عنه : أذهب الشهوات عنها.
والامتحان افتعال من محنه وهو اختبار بليغ أو بلاء جهيد ﴿ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة : ٩] جملة أخرى قيل : نزلت في الشيخين رضي الله عنهما لما كان منهما من غض الصوت، وهذه الآية ـ بنظمها الذي رتبت عليه من إيقاع الغاضين أصواتهم ـ اسماً لـ " إن " المؤكدة وتصيير خبرها جملة من مبتدأ وخبر معرفتين معاً والمبتدأ اسم الإشارة، واستئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم، وإيراد الجزاء نكرة مبهماً أمره ـ دالة على غاية الاعتداد والارتضاء بفعل الخافضين أصواتهم، وفيها تعريض لعظيم ما ارتكب الرافعون أصواتهم.


الصفحة التالية
Icon