﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ ﴾ [الحجرات : ٤] نزلت في وفد بني تميم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقت الظهيرة وهو راقد وفيهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، ونادوا النبي صلى الله عليه وسلّم من وراء حجراته وقالوا : اخرج إلينا يا محمد فإن مدحنا زين وذمنا شين، فاستيقظ وخرج.
والوراء الجهة التي يواريها عنك الشخص بظله من
٢٤٥
خلف أو قدام، و " من " لابتداء الغاية، وأن المناداة نشأت من ذلك المكان، والحجرة الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها وهي فعلة بمعنى مفعولة كالقبضة وجمعها الحجرات بضمتين، والحجرات بفتح الجيم وهي قراءة يزيد والمراد حجرات نساء رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكانت لكل منهن حجرة.
ومناداتهم من ورائها لعلهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له أو نادوه من وراء الحجرة التي كان عليه السلام فيها ولكنها جمعت إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلّم.
والفعل وإن كان مسنداً إلى جميعهم فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم وكان الباقون راضين فكأنهم تولوه جميعاً ﴿ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ﴾ [العنكبوت : ٦٣] يحتمل أن يكون فيهم من قصد استثناؤه، ويحتمل أن يكون المراد النفي العام إذا القلة تقع موقع النفي.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٤٣
وورود الآية على النمط الذي وردت عليه فيه ما لا يخفى من إجلال محل رسول الله صلى الله عليه وسلّم منها : التسجيل على الصائحين به بالسفه والجهل، ومنها إيقاع لفظ الحجرات كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه، ومنها التعريف باللام دون الإضافة، ولو تأمل متأمل من أول السورة إلى آخر هذه الآية لوجدها كذلك.
فتأمل كيف ابتدأ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله متقدمة على الأمور كلها من غير تقييد، ثم أردف ذلك النهي عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر كأن الأول بساط للثاني، ثم أثنى على الغاضين أصواتهم ليدل على عظيم موقعه عند الله، ثم عقبه بما هو أطم وهجنته أتم من الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلّم في حال خلوته من وراء الجدر كما يصاح بأهون الناس قدراً لينبه على فظاعة ما جسروا عليه، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ في التفاحش مبلغاً ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا ﴾ [الحجرات : ٥] أي ولو ثبت صبرهم، ومحل ﴿ أَنَّهُمْ صَبَرُوا ﴾ [الحجرات : ٥] الرفع على الفاعلية.
والصبر حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها قال الله تعالى :﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم ﴾ [الكهف : ٢٨] (الكهف : ٨٢).
وقولهم صبر عن كذا محذوف منه المفعول وهو النفس.
وقيل : الصبر مرّ لا يتجرعه إلا حرّ.
وقوله ﴿ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ ﴾ [الحجرات : ٥] يفيد أنه لو خرج ولم يكن خروجه إليهم ولأجلهم للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أن خروجه إليهم ﴿ لَكَانَ ﴾ الصبر ﴿ خَيْرًا لَّهُمْ ﴾ [محمد : ٢١] في دينهم ﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [البقرة : ٢١٨] بليغ الغفران والرحمة واسعهما فلن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا.
٢٤٦
﴿ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ ﴾ [الحجرات : ٦] أجمعوا أنها نزلت في الوليد بن عقبة وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلّم مصدقاً إلى بني المصطلق وكانت بينه وبينهم إحنة في الجاهلية، فلما شارف ديارهم ركبوا مستقبلين إليه فحسبهم مقاتليه فرجع وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : قد ارتدوا منعوا الزكاة.
فبعث خالد بن الوليد فوجدهم يصلون فسلموا إليه الصدقات فرجع.
وفي تنكير الفاسق والنبأ شياع في الفساق والأنباء كأنه قال أي فاسق جاءكم بأي نبأ
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٤٣