﴿ فَتَبَيَّنُوا ﴾ فتوقفوا فيه وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة ولا تعتمدوا قول الفاسق، لأن من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه.
وفي الآية دلالة قبول خبر الواحد العدل لأنا لو توقفنا في خبره لسوينا بينه وبين الفاسق ولخلا التخصيص به عن الفائدة، والفسوق الخروج من الشيء.
يقال : فسقت الرطبة عن قشرها، ومن مقلوبه : فقست البيضة إذا كسرتها وأخرجت ما فيها، ومن مقلوبه أيضاً : قفست الشيء إذا أخرجته من يد مالكه مغتصباً له عليه، ثم استعمل في الخروج عن القصد بركوب الكبائر.
حمزة وعلي والتثبت والتبين متقاربان وهما طلب الثبات والبيان والتعرف ﴿ وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا ﴾ لئلا تصيبوا ﴿ بِجَهَـالَةٍ ﴾ حال يعني جاهلين بحقيقة الأمر وكنه القصة ﴿ فَتُصْبِحُوا ﴾ فتصيروا ﴿ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَـادِمِينَ ﴾ [الحجرات : ٦] الندم ضرب من الغم وهو أن تغتم على ما وقع منك تتمنى أنه لم يقع وهو غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام.
﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ﴾ [الحجرات : ٧] فلا تكذبوا فإن الله يخبره فينهتك ستر الكاذب، أو فارجعوا إليه واطلبوا رأيه.
ثم قال مستأنفاً
٢٤٧
﴿ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِّنَ الامْرِ لَعَنِتُّمْ ﴾ [الحجرات : ٧] لوقعتم في الجهد والهلاك، وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم الإيقاع ببني المصطلق وتصديق قول الوليد، وأن بعضهم كانوا يتصوّنون ويزعهم جدهم في التقوى عن الجسارة على ذلك وهم الذين استثناهم بقوله ﴿ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَـانَ ﴾ [الحجرات : ٧] وقيل : هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى.
ولما كانت صفة الذين حبب الله إليهم الإيمان غايرت صفة المتقدم ذكرهم وقعت " لكن " في حاقّ موقعها من الاستدراك وهو مخالفة ما بعدها لما قبلها نفياً وإثباتاً ﴿ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ ﴾ [الحجرات : ٧] وهو تغطية نعم الله وغمطها بالجحود ﴿ وَالْفُسُوقَ ﴾ وهو الخروج عن محجة الإيمان بركوب الكبائر ﴿ وَالْعِصْيَانَ ﴾ وهو ترك الانقياد بما أمر به الشارع ﴿ أؤلئك هُمُ الراَّشِدُونَ ﴾ [الحجرات : ٧] أي أولئك المستثنون هم الراشدون يعني أصابوا طريق الحق ولم يميلوا عن الاستقامة، والرشد الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه من الرشادة وهي الصخرة ﴿ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ﴾ [الحجرات : ٨] الفضل والنعمة بمعنى الإفضال والإنعام، والانتصاب على المفعول له أي حبب وكره للفضل والنعمة ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمُ ﴾ [البقرة : ٩٥] بأحوال المؤمنين وما بينهم من التمايز والتفاضل ﴿ حَكِيمٌ ﴾ حين يفضل وينعم بالتوفيق على الأفاضل.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٤٣
﴿ وَإِن طَآ ـاِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ﴾ [الحجرات : ٩] وقف رسول الله صلى الله عليه وسلّم على مجلس بعض الأنصار وهو على حمار فبال الحمار فأمسك ابن أبي بأنفه وقال : خل سبيل حمارك فقد آذانا نتنه.
فقال عبد الله بن رواحة : والله إن بول حماره لأطيب من مسكك.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وطال الخوض بينهما حتى استبا وتجالدا وجاء قوماهما ـ وهما الأوس والخزرج ـ فتجالدوا بالعصي.
وقيل : بالأيدي والنعال والسعف، فرجع إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأصلح بينهم ونزلت.
وجمع ﴿ اقْتَتَلُوا ﴾ حملاً
٢٤٨


الصفحة التالية
Icon