على المعنى لأن الطائفتين في معنى القوم والناس، وثنى في ﴿ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ﴾ [الحجرات : ٩] نظراً إلى اللفظ ﴿ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاـاهُمَا عَلَى الاخْرَى ﴾ [الحجرات : ٩] البغي الاستطالة والظلم وإباء الصلح ﴿ فَقَـاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِى ءَ ﴾ [الحجرات : ٩] أي ترجع والفيء الرجوع وقد سمى به الظل والغنيمة لأن الظل يرجع بعد نسخ الشمس، والغنيمة ما يرجع من أموال الكفار إلى المسلمين، وحكم الفئة الباغية وجوب قتالها ما قاتلت فإذا كفت وقبضت عن الحرب أيديها تركت ﴿ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الحجرات : ٩] المذكور في كتابه من الصلح وزوال الشحناء ﴿ فَإِن فَآءَتْ ﴾ [الحجرات : ٩] عن البغي إلى أمر الله ﴿ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ ﴾ [الحجرات : ٩] بالإنصاف ﴿ وَأَقْسِطُوا ﴾ واعدلوا وهو أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعدما أمر به في إصلاح ذات البين ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [المائدة : ٤٢] العادلين والقسط : الجور، والقسط : العدل، والفعل منه أقسط وهمزته للسلب أي أزال القسط وهو الجور.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٤٨
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾ [الحجرات : ١٠] هذا تقرير لما ألزمه من تولي الإصلاح بين من وقعت بينهم المشاقة من المؤمنين، وبيان أن الإيمان قد عقد بين أهله من السبب القريب والنسب اللاصق ما إن لم يفضل الإخوة لم ينقص عنها.
ثم قد جرت العادة على أنه إذا نشب مثل ذلك بين الأخوين ولاداً لزم السائر أن يتناهضوا في رفعه وإزاحته بالصلح بينهما فالإخوة في الدين أحق بذلك، ﴿ أَخَوَاتِكُمْ ﴾ يعقوب ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات : ١٠] أي واتقوا الله، فالتقوى تحملكم على التواصل والائتلاف وكان عند فعلكم ذلك وصول رحمة الله إليكم مرجواً، والآية تدل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان لأنه سماهم مؤمنين مع وجود البغي.
﴿ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ﴾ [الحجرات : ١١] القوم : الرجال خاصة لأنهم القوام بأمور النساء قال الله تعالى :﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ ﴾ [النساء : ٣٤] (النساء : ٤٣) وهو في الأصل جمع قائم كصوم وزور في
٢٤٩
جمع صائم وزائر.
واختصاص القوم بالرجال صريح في الآية إذ لو كانت النساء داخلة في قوم لم يقل ولا نساء وحقق ذلك زهير في قوله :
وما أدري ولست إخال أدري
أقوم آل حصن أم نساء؟
وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد هم الذكور والإناث فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين، ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث لأنهن توابع لرجالهن.
وتنكير القوم والنساء يحتمل معنيين : أن يراد لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض، وأن يقصد إفادة الشياع وأن يصير كل جماعة منهم منهية عن السخرية.
وإنما لم يقل رجل من رجل ولا امرأة من امرأة على التوحيد إعلاماً بإقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخرية واستفظاعاً للشأن الذي كانوا عليه، وقوله :﴿ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ ﴾ [الحجرات : ١١].
كلام مستأنف ورد مورد جواب المستخبر عن علة النهي وإلا فقد كان حقه أن يوصل بما قبله بالفاء، والمعنى وجوب أن يعتقد كل واحد أن المسخور منه ربما كان عند الله خيراً من الساخر إذ لا اطلاع للناس إلا على الظواهر ولا علم لهم بالسرائر، والذي يزن عند الله خلوص الضمائر فينبغي أن لا يجتريء أحد على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه إذا رآه رث الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبيق في محادثته، فلعله أخلص ضميراً وأتقى قلباً ممن هو على ضد صفته فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله تعالى، وعن ابن مسعود رضي الله عنه : البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلباً.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٤٨