﴿ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا ﴾ [الحجرات : ١٢] ﴿ مَيْتًا ﴾ مدني.
وهذا تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه، وفي مبالغات منها : الاستفهام الذي معناه التقرير، ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة، ومنها إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك، ومنها أن لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخاً، ومنها أن لم يقتصر على لحم الأخ حتى جعل ميتاً.
وعن قتادة : كما تكره إن وجدت جيفة مدودة أن تأكل منها كذلك فاكره لحم أخيك وهو حي، وانتصب ﴿ مَيْتًا ﴾ على الحال من اللحم أو من أخيه، ولما قررهم بأن أحداً منهم لا يحب أكل جيفة أخيه عقب ذلك بقوله ﴿ فَكَرِهْتُمُوهُ ﴾ أي فتحققت كراهتكم له باستقامة العقل فليتحقق أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة باستقامة الدين ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ﴾ [الحجرات : ١٢] التواب : البليغ في قبول التوبة، والمعنى واتقوا الله بترك ما أمرتم باجتنابه والندم على ما وجد منكم منه فإنكم إن اتقيتم تقبل الله توبتكم وأنعم عليكم بثواب المتقين التائبين.
وروي أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوي لهما طعامهما فنام عن شأنه يوماً فبعثاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يبغي لهما إداماً وكان أسامة على طعام رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فقالا : لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها.
فلما جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لهما : مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما فقالا : ما تناولنا لحماً، قال : إنكما قد اغتبتما ومن اغتاب مسلماً فقد أكل لحمه.
ثم قرأ الآية، وقيل : غيبة الخلق إنما تكون من الغيبة عن الحق.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٤٨
﴿ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى ﴾ [الحجرات : ١٣] من آدم وحواء أو كل واحد منكم من أب وأم فما منكم من أحد إلا وهو يدلي بمثل ما يدلي به الآخر سواء بسواء فلا معنى للتفاخر والتفاضل في النسب ﴿ وَجَعَلْنَـاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآ ـاِلَ ﴾ [الحجرات : ١٣] الشعب الطبقة الأولى
٢٥٢
من الطبقات الست التي عليها العرب وهي : الشعب والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة.
فالشعب يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطن تجمع الأفخاذ، والفخذ تجمع الفصائل، خزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة، وسميت الشعوب لأن القبائل تشعبت منها ﴿ لِتَعَارَفُوا ﴾ أي إنما رتبكم على شعوب وقبائل ليعرف بعضكم نسب بعض فلا يعتزي إلى غير آبائه، لا أن تتفاخروا بالآباء والأجداد وتدعوا التفاضل في الأنساب.
ثم بين الخصلة التي يفضل بها الإنسان غيره ويكتسب الشرف والكرم عند الله فقال ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَـاـاكُمْ ﴾ [الحجرات : ١٣] في الحديث :" من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله ".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى.
وروي أنه صلى الله عليه وسلّم طاف يوم فتح مكة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : الحمد لله الذي أذهب عنكم عبية الجاهلية وتكبرها.
يا أيها الناس إنما الناس رجلان : مؤمن تقي كريم على الله وفاجر وشقي هين على الله.
ثم قرأ الآية.
وعن يزيد بن شجرة مر رسول الله صلى الله عليه وسلّم في سوق المدينة فرأى غلاما أسود يقول : من اشتراني فعلى شرط أن لا يمنعني من الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
فاشتراه بعضهم فمرض فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم توفي فحضر دفنه فقالوا في ذلك شيئاً فنزلت ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ ﴾ [آل عمران : ١١٩] كرم القلوب وتقواها ﴿ خَبِيرٌ ﴾ بهمّ النفوس في هواها.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٥٢