﴿ قَالَتِ الاعْرَابُ ﴾ [الحجرات : ١٤] أي بعض الأعراب لأن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر وهم أعراب بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة فاظهروا الشهادة يريدون الصدقة ويمنون عليه ﴿ ءَامَنَّا ﴾ أي ظاهراً وباطناً ﴿ قُلْ ﴾ لهم يا محمد ﴿ لَّمْ تُؤْمِنُوا ﴾ [الدخان : ٢١] لم تصدقوا بقلوبكم ﴿ وَلَـاكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا ﴾ [الحجرات : ١٤] فالإيمان هو التصديق، والإسلام
٢٥٣
الدخول في السلم والخروج من أن يكون حرباً للمؤمنين بإظهار الشهادتين، ألا ترى إلى قوله ﴿ وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمَـانُ فِى قُلُوبِكُمْ ﴾ [الحجرات : ١٤] فاعلم أن ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب فهو إسلام، وما واطأ فيه القلب اللسان فهو إيمان، وهذا من حيث اللغة.
وأما في الشرع فالإيمان والإسلام واحد لما عرف، وفي ﴿ لَّمًّا ﴾ معنى التوقع وهو دال على أن بعض هؤلاء قد آمنوا فيما بعد.
والآية تنقض على الكرامية مذهبهم أن الإيمان لا يكون بالقلب ولكنّ باللسان، فإن قلت : مقتضى نظم الكلام أن يقال : قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا، أو قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم.
قلت : أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أولاً فقيل ﴿ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا ﴾ [الحجرات : ١٤] مع أدب حسن فلم يقل كذبتم تصريحاً ووضع ﴿ لَّمْ تُؤْمِنُوا ﴾ [الدخان : ٢١] الذي هو نفي ما ادعوا إثباته موضعه واستغنى بقوله ﴿ لَّمْ تُؤْمِنُوا ﴾ [الدخان : ٢١] عن أن يقال لا تقولوا آمنا لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النهي عن القول بالإيمان، ولم يقل ولكن أسلمتم ليكون خارجاً مخرج الزعم والدعوى كما كان قولهم آمنا كذلك.
ولو قيل ولكن أسلمتم لكان كالتسليم والاعتداد بقولهم وهو غير معتد به.
وليس قوله ﴿ وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمَـانُ فِى قُلُوبِكُمْ ﴾ [الحجرات : ١٤] تكريراً لمعنى قوله ﴿ لَّمْ تُؤْمِنُوا ﴾ [الدخان : ٢١] فإن فائدة قوله ﴿ لَّمْ تُؤْمِنُوا ﴾ [الدخان : ٢١] تكذيب لدعواهم وقوله ﴿ وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمَـانُ فِى قُلُوبِكُمْ ﴾ [الحجرات : ١٤] توقيب لما أمروا به أن يقولوه كأن قيل لهم : ولكن قولوا أسلمنا حين لم تثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في ﴿ قُولُوا ﴾.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٥٢
﴿ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [الحجرات : ١٤] في السر بترك النفاق ﴿ لا يَلِتْكُم ﴾ [الحجرات : ١٤] ﴿ لا ﴾ : بصري ﴿ يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَـالِكُمْ شيئا ﴾ [الحجرات : ١٤] أي لا ينقصكم من ثواب حسناتكم شيئاً.
ألت يألت وألات يليت ولات يليت بمعنى وهو النقص ﴿ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ﴾ [البقرة : ٢٣٥] بستر الذنوب ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ بهدايتهم للتوبة عن العيوب.
ثم وصف المؤمنين المخلصين فقال ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ﴾ [الحجرات : ١٥] ارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة، والمعنى أنهم آمنوا ثم لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به ولا اتهام لما صدقوه.
ولما كان الإيقان وزوال الريب ملاك الإيمان أفرد بالذكر بعد تقدم الإيمان تنبيهاً على مكانه، وعطف على الإيمان بكلمة التراخي إشعاراً
٢٥٤
باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضاً جديداً ﴿ وَجَـاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [الانفال : ٧٢] يجوز أن يكون المجاهد منوياً وهو العدو المحارب أو الشيطان أو الهوى، وأن يكون جاهد مبالغة في جهد، ويجوز أن يراد بالمجاهدة بالنفس الغزو وأن يتناول العبادات بأجمعها وبالمجاهدة بالمال نحو صنيع عثمان في جيش العسرة، وأن يتناول الزكاة وكل ما يتعلق بالمال من أعمال البر.
وخبر المبتدأ الذي هو ﴿ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ ﴿ أؤلئك هُمُ الصَّـادِقُونَ ﴾ [الحجرات : ١٥] أي الذين صدقوا في قولهم آمنا ولم يكذبوا كما كذب أعراب بني أسد أو هم الذين إيمانهم إيمان صدق وحق.
وقوله ﴿ الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ [محمد : ٣] صفة لهم.


الصفحة التالية
Icon