كانوا أنبياء ﴿ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاؤُا مِنكُمْ ﴾ [الممتحنة : ٤] جمع بريء كظريف وظرفاء ﴿ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ ﴾ [الممتحنة : ٤] بالأفعال ﴿ وَالْبَغْضَآءُ ﴾ بالقلوب ﴿ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ﴾ [الممتحنة : ٤] فحينئذ نترك عداوتكم ﴿ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لابِيهِ لاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ﴾ [الممتحنة : ٤] وذلك لموعدة وعدها إياه أي اقتدوا به في أقواله ولا تأتسوا به في الاستغفار لأبيه الكافر ﴿ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ ﴾ [الممتحنة : ٤] أي من هداية ومغفرة وتوفيق، وهذه الجملة لا تليق بالاستثناء ألا ترى إلى قوله :﴿ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شيئا ﴾ [الفتح : ١١] (الفتح : ١١) ولكن المراد استثناء جملة قوله لأبيه والقصد إلى موعد الاستغفار له وما بعده تابع له كأنه قال : أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار ﴿ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا ﴾ [الممتحنة : ٤] متصل بما قبل الاستثناء وهو من جملة الأسوة الحسنة.
وقيل : معناه قولوا ربنا فهو ابتداء أمر من الله للمؤمنين بأن يقولوه ﴿ وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا ﴾ [الممتحنة : ٤] أقبلنا ﴿ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة : ٢٨٥] المرجع ﴿ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [الممتحنة : ٥] أي لا تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب ﴿ وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الممتحنة : ٥] أي الغالب الحاكم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٦٠
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاخِرَ ﴾ ثم كرر الحث على الائتساء بإبراهيم عليه السلام وقومه تقريراً وتأكيداً عليهم، ولذا جاء به مصدراً بالقسم لأنه الغاية في التأكيد، وأبدل من قوله ﴿ لَكُمْ ﴾ قوله ﴿ لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ ﴾ أي ثوابه أي يخشى الله وعقبه بقوله ﴿ وَمَن يَتَوَلَّ ﴾ [المائدة : ٥٦] يعرض عن أمرنا ويوال الكفار ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ ﴾ [الحديد : ٢٤] عن الخلق ﴿ الْحَمِيدُ ﴾ المستحق للحمد فلم يترك نوعاً من التأكيد إلا جاء به ولما أنزلت هذه الآيات وتشدد المؤمنون في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقربائهم من المشركين أطمعهم في تحول الحال إلى خلافة فقال :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٦٣
﴿ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم ﴾ [الممتحنة : ٧] أي من أهل مكة من أقربائكم ﴿ مَّوَدَّةً ﴾ بأن يوفقهم للإيمان، فلما يسر فتح مكة أظفرهم الله بأمنيتهم
٣٦٣
فأسلم قومهم وتم بينهم التحاب.
و " عسى " وعد من الله على عادات الملوك حيث يقولون في بعض الحوائج عسى أو لعل فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك أو أريد به إطماع المؤمنين ﴿ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ﴾ [الممتحنة : ٧] على تقليب القلوب وتحويل الأحوال وتسهيل أسباب المودة ﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [البقرة : ٢١٨] لمن أسلم من المشركين ﴿ لا يَنْهَـاـاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَـاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَـارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ ﴾ [الممتحنة : ٨] تكرموهم وتحسنوا إليهم قولاً وفعلاً.
ومحل ﴿ أَن تَبَرُّوهُمْ ﴾ [الممتحنة : ٨] جر على البدل من ﴿ الَّذِينَ لَمْ يُقَـاتِلُوكُمْ ﴾ [الممتحنة : ٨] وهو بدل اشتمال والتقدير عن بر الذين ﴿ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ﴾ [الممتحنة : ٨] وتقضوا إليهم بالقسط ولا تظلموهم، وإذا نهي عن الظلم في حق المشرك فكيف في حق المسلم ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَـاـاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَـاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَـارِكُمْ وَظَـاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ﴾ هو بدل من ﴿ الَّذِينَ قَـاتَلُوكُمْ ﴾ [الممتحنة : ٩] والمعنى لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء ﴿ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ ﴾ [الممتحنة : ٩] منكم ﴿ فَأُوالَـائكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ ﴾ [البقرة : ٢٢٩] حيث وضعوا التولي غير موضعه.