﴿ قَالُوا بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ ﴾ [الملك : ٩] اعتراف منهم بعدل الله وإقرار بأنه تعالى أزاح عللهم يبعث الرسل وإنذارهم ما وقعوا فيه ﴿ فَكَذَّبْنَا ﴾ أي فكذبناهم ﴿ وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ ﴾ [الملك : ٩] مما يقولون من وعد ووعيد وغير ذلك ﴿ إِنْ أَنتُمْ إِلا فِى ضَلَـالٍ كَبِيرٍ ﴾ [الملك : ٩] أي قال الكفار للمنذرين : ما أنتم إلا في خطأ عظيم.
فالنذير بمعنى الإنذار.
ثم وصف به منذروهم لغلوهم في الإنذار كأنهم ليسوا إلا إنذاراً، وجاز أن يكون هذا كلام الخزنة للكفار عن إرادة القول ومرادهم بالضلال الهلاك، أو سموا جزاء الضلال باسمه كما سمي جزاء السيئة والاعتداء سيئة واعتداء ويسمى المشاكلة في علم البيان، أو كلام الرسل لهم حكوه للخزنة أي قالوا لنا هذا فلم نقبله ﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ ﴾ [الملك : ١٠] الإنذار سماع طالب الحق ﴿ أَوْ نَعْقِلُ ﴾ [الملك : ١٠] أي نعقله عقل متأمل ﴿ مَا كُنَّا فِى أَصْحَـابِ السَّعِيرِ ﴾ [الملك : ١٠] في جملة أهل النار، وفيه دليل على أن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل وأنهما حجتان ملزمتان ﴿ فَاعْتَرَفُوا بِذَنابِهِمْ ﴾ [الملك : ١١] بكفرهم في تكذيبهم الرسل ﴿ فَسُحْقًا لِّأَصْحَـابِ السَّعِيرِ ﴾ [الملك : ١١] وبضم الحاء : يزيد وعلي، فبعداً لهم عن رحمة الله وكرامته ـ اعترفوا أو جحدوا ـ فإن ذلك لا ينفعهم.
وانتصابه على أنه مصدر وقع موقع الدعاء.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ ﴾ [الملك : ١٢] قبل معاينة العذاب ﴿ لَهُم مَّغْفِرَةٌ ﴾ [المائدة : ٩] للذنوب ﴿ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [هود : ١١] أي الجنة ﴿ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ﴾ [الملك : ١٣] ظاهره الأمر بأحد الأمرين : الإسرار والإجهار، ومعناه ليستو عندكم إسراركم وإجهاركم في علم الله بهما.
روي أن مشركي مكة كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيخبره جبريل بما قالوه فيه ونالوه منه فقالوا فيما بينهم : أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد فنزلت.
ثم علله بقوله ﴿ إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [الانفال : ٤٣] أي بضمائرها قبل أن تترجم الألسنة عنها فكيف لا يعلم ما تكلم به؟.
٤٠٣
﴿ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ﴾ [الملك : ١٤] " من " في موضع رفع بأنه فاعل ﴿ يَعْلَمُ ﴾ ﴿ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام : ١٠٣] أنكر أن لا يحيط علماً بالمضمر والمسر والمجهر من خلقها وصفته أنه اللطيف أي العالم بدقائق الأشياء الخبير العالم بحقائق الأشياء، وفيه إثبات خلق الأقوال فيكون دليلاً على خلق أفعال العباد.
وقال أبو بكر بن الأصم وجعفر بن حرب :﴿ مِنَ ﴾ مفعول والفاعل مضمر وهو الله تعالى فاحتالا بهذا لنفي خلق الأفعال.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٠٠
﴿ هُوَ ﴾ الله ﴿ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ ذَلُولا ﴾ [الملك : ١٥] لينة سهلة مذللة لا تمنع المشي فيها ﴿ فَامْشُوا فِى مَنَاكِبِهَا ﴾ [الملك : ١٥] جوانبها استدلالاً واسترزاقاً أو جبالها أو طرقها ﴿ وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ﴾ [الملك : ١٥] أي من رزق الله فيها ﴿ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك : ١٥] أي وإليه نشوركم فهو سائلكم عن شكر ما أنعم به عليكم ﴿ ءَأَمِنتُم مَّن فِى السَّمَآءِ ﴾ أي من ملكوته في السماء لأنها مسكن ملائكته ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه فكأنه قال : أأمنتم خالق السماء وملكه، أو لأنهم كانوا يعتقدون التشبيه وأنه في السماء، وأن الرحمة والعذاب ينزلان منه فقيل لهم على حسب اعتقادهم : أأمنتم من تزعمون أنه في السماء وهو متعالٍ عن المكان ﴿ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الارْضَ ﴾ [الملك : ١٦] كما خسف بقارون ﴿ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ ﴾ [الملك : ١٦] تضطرب وتتحرك ﴿ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِى السَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ﴾ [الملك : ١٧] حجارة أن يرسل بدل من بدل الاشتمال وكذا ﴿ أَن يَخْسِفَ ﴾ [النحل : ٤٥] ﴿ فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ﴾ [الملك : ١٧] أي إذا رأيتم المنذر به علمتم كيف إنذاري حين لا ينفعكم العلم ﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ [الملك : ١٨] من قبل قومك ﴿ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ [الحج : ٤٤] أي
٤٠٤