روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه كان لبعض الملوك ساحر فلما كبر ضموا إليه غلاماً ليعلمه السحر.
وكان في طريق الغلام راهب فسمع منه فرأى في طريقه ذات يوم دابة قد حبست الناس فأخذ حجراً فقال :" اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فاقتلها " فقتلها فكان الغلام بعد ذلك يبرىء الأكمه والأبرص.
وعمي جليس للملك فأبرأه فأبصره الملك فسأله من رد عليك بصرك؟ فقال : ربي.
فغضب فعذبه فدل على الغلام، فعذبه فدل على الراهب، فلم يرجع الراهب عن دينه فقدّ بالمنشار، وأبى الغلام فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته فدعا فرجف بالقوم فطاحوا ونجا، فذهب به إلى قرقور فلجّجوا به ليغرقوه فدعا فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ونجا فقال للملك : لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهماً من كنانتي وتقول : باسم الله رب الغلام ثم ترميني به، فرماه فوقع في صدغه فوضع يده عليه فمات فقال الناس : آمنا برب الغلام.
فقيل للملك : نزل بك ما كنت تحذر.
فخدّ أخدوداً وملأها ناراً فمن لم يرجع عن دينه طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها فقال الصبي : يا أماه اصبري فإنك على الحق فألقي الصبي وأمه فيها ﴿ النَّارِ ﴾ بدل اشتمال من الأخدود ﴿ ذَاتِ الْوَقُودِ ﴾ [البروج : ٥] وصف لها بأنها نار عظيمة لها ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس ﴿ إِذْ ﴾ ظرف لقتل أي لعنوا حين أحرقوا بالنار قاعدين حولها ﴿ هُمْ عَلَيْهَا ﴾ [البروج : ٦] أي الكفار على ما يدنو منها من حافات الأخدود ﴿ قُعُودٌ ﴾ جلوس على الكراسي ﴿ وَهُمْ ﴾ أي الكفار ﴿ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴾ [البروج : ٧] من الإحراق ﴿ شُهُودٌ ﴾ يشهد بعضهم لبعض عند الملك أن أحداً منهم لم يفرط فيما أمر به وفوض إليه من التعذيب، وفيه حث للمؤمنين على الصبر وتحمل أذى أهل مكة ﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَن يُؤْمِنُوا ﴾ [البروج : ٨] وما عابوا
٥٠٥
منهم وما أنكروا إلا الإيمان كقوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
وقوله :
ما نقموا من بني أمية إلـ
ـلاّ أنهم يحلمون إن غضبوا
وقرىء ﴿ نَقَمُوا ﴾ بالكسر والفصيح هو الفتح ﴿ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [البروج : ٨] ذكر الأوصاف التي يستحق بها أن يؤمن به وهو كونه عزيزاً غالباً قادرا يخشى عقابه حميداً منعماً يجب له الحمد على نعمته ويرجى ثوابه ﴿ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ [الأعراف : ١٥٨] فكل من فيهما تحق عليه عبادته والخشوع له تقريراً لأن ما نقموا منهم هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل، وأن الناقمين أهل لانتقام الله منهم بعذاب عظيم ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المجادلة : ٦] وعيد لهم يعني أنه علم ما فعلوا وهو مجازيهم عليه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٠٤
﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ ﴾ [البروج : ١٠] يجوز أن يريد بالذين فتنوا أصحاب الأخدود خاصة وبالذين آمنوا المطروحين في الأخدود، ومعنى فتنوهم عذبوهم بالنار وأحرقوهم ﴿ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا ﴾ [البروج : ١٠] لم يرجعوا عن كفرهم ﴿ فَلَهُمْ ﴾ في الآخرة ﴿ عَذَابُ جَهَنَّمَ ﴾ [الفرقان : ٦٥] بكفرهم ﴿ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾ [البروج : ١٠] في الدنيا لما روي أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم، ويجوز أن يريد الذين فتنوا المؤمنين أي بلوهم بالأذى على العموم والمؤمنين المفتونين، وأن للفاتنين عذابين في الآخرة لكفرهم ولفتنتهم.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أؤلئك أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ ﴾ [هود : ٢٣] أي الذين صبروا على تعذيب الأخدود أو هو عام ﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴾ [البروج : ١٢] البطش : الأخذ بالعنف فإذا وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم، والمراد أخذه الظلمة والجبابرة بالعذاب والانتقام
٥٠٦